شرح الحديث النبوى إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ...باب التوبة
شرح
الحديث النبوي إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ...باب التوبة على مدونة فذكر
شرح
العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
أحاديث رياض الصالحين
باب
التَّوبة الحديث رقم 20
عن
زرِّ بن حُبيش قال: أتيت صفوان بن عسال - رضي الله عنه- أسأله عن المسح على
الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر؟ فقلت: ابتغاء العلم فقال: إن الملائكة تضع أجنحتها
لطالب العلم رضًا بما يطلب، فقلت: إنه قد حك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط
والبول، وكنت امرءًا من أصحاب النبي ﷺ فجئت أسألك: هل سمعته يذكر في ذلك شيئاً؟
قال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفرًا- أو مسافرين- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام
ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم، فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى
شيئاً؟ قال: نعم: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر ، فبَيْنا نحن عنده إذ ناداه
أعرابي بصوت له جهوري: يامحمد، فأجابه رسول الله ﷺ نحوا من
صوته: (هاؤم ) فقلت له: ويحك أغضض من صوتك فإنك عند النبي ﷺ ، وقد نهيت عن هذا!! فقال: والله لا
أغضض. قال الإعرابي: المرء يحب القوم ولما يحلق بهم؟ قال النبي ﷺ (المرء مع من أحب يوم القيامة) فما زال يحدِّثنا
حتى ذكر بابا من المغرب مسيرة عرضه – أو يسير الراكب في عرضه- أربعين؛ أو سبعين
عاما. قال سفيان- أحد الرواة-: قبل الشام، خلقه الله - تعالى- يوم خلق السماوات
والأرض مفتوحاً للتوبة، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. رواه الترمذي وغيره
وقال: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث من أحاديث التوبة التي ساقها المؤلف -رحمه الله- في بيان متى تنقطع التوبة. لكنه يشتمل على فوائد:
منها: أن زر بن حبيش أتي إلى صفوان بن عسال- رضي الله عنه- من أجل العلم- يبتغي العلم- فقال له صفوان بن عسال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب.
وهذه فائدة عظيمة تدل على فضيلة العلم، وطلب العلم؛ والمراد به العلم الشرعي، أي: عِلمُ ما جاء به النبي ﷺ أما علم الدنيا فللدنيا، لكن طلب العلم الذي جاء به النبي ﷺ هو الذي فيه الثناء والمدح، والحث عليه في القرآن والسنة. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، لأن هذا الدين قام بأمرين:
قام بالعلم والبيان، وبالسلاح: بالسيف والسنان.
حتى إن بعض العلماء قال: إن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله بالسلاح لأن حفظ الشريعة إنما يكون بالعلم، والجهاد بالسلاح في سبيل الله مبني على العلم، لا يَسيرُ المجاهد، ولا يُقاتل ، ولا يحجم، ولا يقسم الغنيمة، ولا يحكم بالأسرى؛ إلا عن طريق العلم، فالعِلمُ هو كل شيء.
ولهذا قال الله عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة:11)، وَوَضْعُ الملائكة أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يطلب واحتراماً له، وتعظيماً له، ولا يُرَدُّ على هذا أن يقول القائل: أنا لا أحس بذلك؟ لأنه إذا صح الخبر عن الرسول ﷺ فإنه كالمشاهد عيانا.
أرأيت قوله ﷺ ) ينزل ربنا- تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له (64) (.
نحن لا نسمع هذا الكلام من الله- عز وجل- لكن لما صح عن نبينا ﷺ صار كأننا نسْمعه، ولذلك يجب علينا أن نؤمن بما قال الرسول ﷺ وبما صح عنه مما يذكر في أمور الغيب، وأن نكون مُتَيقِّنين لها كأنما نشاهدها بأعيننا ونسمعها بآذاننا.
ثم ذكر زر بن حبيش لصفوان بن عسال أنه حك في صدره المسح على الخفين بعد البول والغائط.
يعني أن الله تعالى ذكر في القرآن قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ (المائدة:6) ، فيقول إنه حك في صدري؛ أي: صار عندي توقف وشك في المسح على الخفين بعد البول أو الغائط هل هذا جائز أو لا ؟
فبيَّن له صفوان بن عسال- رضي الله عنه- أن ذلك جائز لأن النبي ﷺ أمرهم إذا كانوا سفراً أو مسافرين أن لا ينزعوا خِفَافهم إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم، فدل هذا على جواز المسح على الخفين، بل إنَّ المسح على الخفين أفضل إذا كان الإنسان لابسًا لهما.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- أنه كان مع النبي ﷺ في سفر ، فتوضأ النبي ﷺ فأهوى المغيرة لينزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، ومسح عليهما (65) (.
ففي هذا دليل واضح على أن الإنسان الذي عليه جوارب، أو عليه خفان؛ أن الأفضل أن يمسح عليهما ولا يغسل رجليه.
ومنها: أنه ينبغي إذا أشكل على الإنسان شيء أن يسأل ويبحث عمَّن هو أعلم بهذا الشيء؛ حتى لا يبقى في قلبه حرج مما سمع، لأن بعض الناس يسمع الشيء من الأحكام الشرعية ويكون في نفسه حرج، ويبقى متشكِّكاً متردِّداً، لا يسأل أحداً يزيل عنه هذه الشبهة، وهذا خطأ، بل الإنسان ينبغي له أن يسأل حتى يصل إلى أمر يطمئن إليه ولا يبقى عنده قلق.
فهذا زر بن حبيش- رحمه الله- سأل صفوان بن عسال- رضي الله عنه- عن المسح على الخفين؛ وهل عنده شيء عن رسول الله ﷺ في ذلك، فقال: نعم، كان يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين ألا ننزع خفافنا إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم.
فهذا الحديث فيه دليل على ثبوت المسح على الخفين، وقد تواترت الأحاديث عن الرسول ﷺ في ذلك، وأخذ بهذا أهل السنة، حتى إن بعض أهل العلم، الذين صنَّفوا في كتب العقائد، ذكروا المسح على الخفين في كتاب العقائد؛ وذلك لأن الرافضة خالفوا في ذلك؛ فلم يُثبِتوا المسح على الخفين وأنكروه، والعجب أن ممن روى المسح على الخفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومع ذلك هم ينكرونه ولا يقولون به، فكان المسح على الخفين من شعار أهل السنة ومن الأمور المتواترة عندهم؛ التي ليس عندهم فيها شك عن رسول الله ﷺ.
قال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح شك ، أو قال: شيء فيه أربعون حديثاً عن النبي ﷺ وأصحابه ولكن لابد من شروط لجواز المسح على الخفين:
الشرط الأول: أن يلبسهما على طهارة؛ لأن النبي ﷺ قال للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حينما أراد أن ينزع خفي النبي ﷺ قال:(دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ، ومسح عليهما).
ولا فرق بين أن تكون هذه الطهارة قد غسل فيها الرِّجل، أو مسح فيها على خفٍّ سابق.
فمثلاً: لو توضأ وضوءاً كاملاً، وغسل رجليه، ثم لبس الجوارب؛ يعني الشرَّاب أو الخفين، فهنا لَبِسَهُما على طهارة.
كذلك لو كان قد لبس جوارب من قبل ومسح عليهما، ثم احتاج إلى زيادة جورب ولبسه على الجورب الأول الذي مسحه- وهو على طهارة-، فإنه يمسح على الثاني، لكنْ يكون ابتداء المدة من المسح على الأول لا من المسح على الثاني ؛ هذا هو القول الصحيح؛ أنه إذا لبس خفًّا على خف ممسوح فإنه يمسح على الأعلى، لكن يَبني على مُدة المسح على الأول.
ولابدَّ أن تكون الطهارة بالماء، فلو لبسهما على طهارة تيمُّمٍ فإنه لا يمسح عليهما؛ مثل رجل مسافر ليس معه ماء، فتيمَّم ولبس الخفين على طهارة تيمم، ثم بعد ذلك وجد الماء، وأراد أن يتوضأ، ففي هذه الحال لابد أن يخلع الخفين ويغسل قدميه عند الوضوء، ولا يجوز المسح عليهما في هذه الحال، لأنه لم يلبسهما على طهارة غَسَلَ فيها الرجل، فإن التيمم يتعلق بعضوين فقط؛ وهما الوجه والكفان.
الشرط الثاني: أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر، ولهذا قال صفوان بن عسال: إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم فإذا صار على الإنسان جنابة؛ فإنه لا يجزئ أن يمسح على الجوربين أو الخفين، بل لابد من نزعهما وغسل القدمين؛ وذلك لأن الطهارة الكبرى ليس فيها مسح إلا للضرورة في الجبيرة، ولهذا لا يمسح فيها الرأس، بل لابد من غسل الرأس - مع أنه في الحدث الأصغر يمسح؛ لكن الجنابة طهارتها أوكد وحدثها أكبر، فلابد من الغسل، ولا يمسح فيها على الخف؛ لهذا الحديث، ولأن المعنى والقياس يقتضي ذلك.
الشرط الثالث: أن يكون المسح في المدة التي حددها النبي ﷺ وهي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، كما صح ذلك أيضاً من حديث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في صحيح مسلم قال: جعل رسول الله ﷺ ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم (66). يعني: في المسح على الخفين:
فإذا انتهت المدة فلا مسح، لابد أن يخلع الجوربين أو الخفين، ثم يغسل القدمين، ولكن إذا انتهت المدة وأنت على طهارة فاستمرَّ على طهارتك، لا تنتقضُ الطهارة، ولكن إذا أردت أن تتوضأ بعد انتهاء المدة فلابد من غسل القدمين.
ثم إن زر بن حبيش سأل صفوان بن عسال: هل سمع من النبي ﷺ يقول في الهوى شيئاً؟
الهوى: المحبة والميل، فقال: نعم، ثم ذكر قصة الأعرابي الذي كان جهوري الصوت فجاء ينادي: يا محمد؛ بصوت مرتفع.
فقيل له: ويحك! أتنادي رسول الله ﷺ بصوت مرتفع؟ والله - عز وجل- يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ (الحجرات:2)، ولكن الأعراب لا يعرفون الآداب كثيراً؛ لأنهم بعيدون عن المدن وبعيدون عن العلم.
فأجابه النبي ﷺ بصوت مرتفع كما سأل الأعرابي، لأن رسول الله ﷺ أكمل الناس هدياً، يعطي كل إنسان بقدر ما يتحمله عقله، فخاطبه النبي ﷺ بمثل ما خاطبه به، قال له الأعرابي: المرء يحب القوم ولما يلحق بهم يعني: يحب القوم ولكن عمله دون عملهم؛ لا يساويهم في العمل، مع من يكون؟ أيكون معهم أو لا ؟
فقال النبي ﷺ: (المرء مع من أحب يوم القيامة) نعمة عظيمة - ولله الحمد- وقد روى أنس بن مالك- رضي الله عنه- هذه القطعة من الحديث، أن الرسول ﷺ قال لرجل يحب الله ورسوله: إنك مع من أحببت قال أنس ) فأنا أحب رسول الله ﷺ وأبا بكر عمر وأرجو أن أكون معهم (67).
وهكذا أيضاً نحن نشهد الله - عز وجل- على محبة رسول الله ﷺ ، وخلفائه الراشدين، وصحابته، وأئمة الهدى من بعدهم، ونسأل الله أن يجعلنا معهم .
هذه بشرى للإنسان؛ أنه إذا أحب قوما صار معهم وإن قَصُرَ به عمله؛ يكون معهم في الجنة ويجمعه الله معهم في الحشر، ويشربون من حوض الرسول ﷺ جميعاً، وهكذا.. كما أن من أحب الكفرة فإنه ربما يكون معهم _ والعياذ بالله- لأن محبة الكافرين حرام، بل قد تكون من كبائر الذنوب.فالواجب على المسلم أن يكره الكفار، وأن يعلم أنهم أعداء له مهما أبدَوا من الصداقة والمودة والمحبة؛ فإنهم لن يتقربوا إليك إلا لمصلحة أنفسهم ومضرتك أيضا، أما أن يتقربوا إليك لمصلحتك فهذا شيء بعيد. إن كان يمكن أن نجمع بين الماء والنار؛ فيمكن أن نجمع بين محبة الكفار لنا وعداوتهم لنا؛ لأن الله تعالى سمَّاهم أعداءً قال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ (الممتحنة:1)،وقال عز وجل:﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة:98)
فكل كافر فإن الله عدوٌ له، وكل كافر فإنه عدوٌ لنا، وكل كافر فإنه لا يضمر لنا إلا الشر.
ولهذا يجب عليك أن تكره من قلبك كل كافر مهما كان جنسه، ومهما كان تقربه إليك فاعلم أنه عدوك. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ (الممتحنة: 1)، إذاً نأخذ من هذه قاعدة أصَّلها النبي - عليه الصلاة والسلام- ألا وهي: (المرء مع من أحب) (68) فعليك يا أخي أن تشد قلبك على محبة الله تعالى، ورسوله، وخلفائه الراشدين، وصحابته الكرام، وأئمة الهدى من بعدهم لتكون معهم.
نسأل الله أن يحقِّقَ لنا ذلك بمنِّه وكَرَمِه. والله الموفِّق.
شرح الحديث النبوى إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ...باب التوبة
Reviewed by احمد خليل
on
6:13:00 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: