شرح حديث/ تؤدون الحق الذي عليكم
أحاديث رياض الصالحين: باب الصَّبر.
٥٢- وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وأُمُورٌ
تُنْكِرُونَها!»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسأَلُونَ
اللهَ الَّذِي لَكُمْ» [١] متفق عليه.
(والأَثَرَة): الانفراد بالشيء عمن له
فيه حقٌ.
٥٣- وَعن أبي يحْيَى أُسَيْدِ بْنِ
حُضَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ
رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: يَا رسولَ اللَّهِ أَلا تَسْتَعْمِلُني كَمَا
اسْتْعْملتَ فُلاناً وفلاناً فَقَالَ: «إِنَّكُمْ
سَتَلْقَوْنَ بَعْدي أَثَرَةً فاصْبِرُوا حَتَّى تلقَوْنِي علَى الْحوْضِ» [٢] متفقٌ عَلَيهِ.
(وأُسَيْدٌ) بضم
الهمزة. (وحُضَيْرٌ) بحاء مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة، والله أعلم.
الشرح:
لا يَنصلِحُ حالُ الجَماعةِ إلَّا
بوُجودِ إمامٍ وحاكمٍ يُقيمُ لهمْ أمْرَ دِينِهم ودُنْياهم، وقدْ أحاطَتِ
الشَّريعةُ الإسْلاميَّةُ هذا المَنصِبَ بالعِنايةِ؛ لأنَّ اخْتِلالَه اخْتِلالٌ
لأمْرِ الجَماعةِ؛ ولذلك أمَر النَّبيُّ ﷺ
الأُمَّةَ بطاعةِ وُلاةِ أُمورِها في المَعْروفِ، وعَدمِ الخُروجِ عليهم.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ ﷺ أُمَّتَه أنَّه: «ستَكونُ أَثَرةٌ، وأُمورٌ
تُنكِرونَها»، يَعْني: سيَأْتي أُمَراءُ يُفضِّلونَ عليكمْ غَيرَكم، ويَأْخُذونَ
مِن الأمْوالِ الَّتي حقُّها أنْ تَكونَ مُشتَرَكةً للجَميعِ، وسيَكونُ منهم
أُمورٌ تُنكِرونَها في الدِّينِ، فسَأَل الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم، النَّبيَّ ﷺ: ماذا يَفعَلونَ؟ فأمَرَهم أنْ يَفْعَلوا ما
يَجِبُ عليهم تُجاهَ أُمَرائِهم؛ مِن إخْراجِ الحقِّ الواجِبِ في المالِ،
والخُروجِ للجِهادِ، وسائرِ ما يَجِبُ على المُسلِمِ مِن طاعةِ إمامِه، ثمَّ
يَسْألوا اللهَ تعالَى، حقَّهمُ الَّذي مُنِعوا منه، فيَطلُبوا مِن اللهِ تعالَى
أنْ يَدفَعَ عنهم شَرَّ وُلاةِ الجَوْرِ، وأنْ يُصلِحَهم، ويُعوِّضَهم خَيرًا
ممَّا فاتَهم، وأنْ يَكِلوا أمْرَهم إلى اللهِ سُبحانه.
وفي الحَديثِ: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ
نُبوَّتِه ﷺ.
وفيه: الحثُّ على السَّمعِ والطَّاعةِ،
وإنْ كان المُتولِّي ظالِمًا عَسوفًا، فيُعْطى حقَّه مِن الطَّاعةِ، ولا يُخرَجُ
عليه، ولا يُخلَعُ؛ بلْ يُتَضرَّعُ إلى اللهِ تعالَى في كَشْفِ أذاهُ، ودَفْعِ
شرِّه، وإصْلاحِه.
وفي حديث أبي يحْيَى أُسَيْدِ، نَهانا
النَّبيُّ ﷺ عنِ التَّنافُسِ في الدُّنْيا،
وأرشَدَنا إلى أنَّ الآخِرةَ هي مَحلُّ التَّنافُسِ والتَّسابُقِ؛ فهي دارُ
القَرارِ والحَقيقةِ، وما الدُّنْيا إلَّا مَتاعُ الغُرورِ، فالواجِبُ على
المُسلمِ أنْ يَصبِرَ على ما حُرِمَ منه في الدُّنْيا؛ رَجاءَ ثَوابِ الآخِرةِ والنَّعيمِ
المُقيمِ فيها.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أُسَيدُ بنُ
حُضَيرٍ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّه جاء رَجلٌ مِن الأنْصارِ -وهم أهلُ المَدينةِ- إلى
النَّبيِّ ﷺ وطلَبَ منه أنْ يَستَعمِلَه في
وَظيفةٍ، أو وِلايةٍ، كما استَعمَلَ غَيرَه، فقال له ﷺ:
«سَتَلقَوْنَ بَعْدي أثرَةً، فاصْبِروا حتَّى تَلقَوْني على الحَوضِ»، أي:
ستَجِدونَ بَعْدي مَن يُفضِّلُ عليكمْ غَيرَكم في الأمْوالِ وغَيرِها، فيُعْطيهم
ما لا يُعْطيكم، ويَستَعمِلُهم في الوَظائفِ والوِلاياتِ ما لا يَستَعمِلُكم؛
فاصْبِروا على ما تَلقَوْنَه في الدُّنْيا حتَّى تَلقَوْني على الحَوضِ يومَ
القيامةِ سالِمينَ مِن التَّنافُسِ والتَّباغُضِ على حُطامِ الدُّنْيا، فعندَها
تُوَفَّوْنَ أُجورَكم مِن اللهِ تعالَى، وحَوضُ النَّبيِّ ﷺ: مَجمَعُ ماءٍ عَظيمٌ يَرِدُه المُؤمِنونَ في عَرَصاتِ القيامةِ.
وهذا منِ استِعْمالِ الحِكْمةِ في الأُمورِ
الَّتي قد تَقْتَضي الإثارةَ؛ فإنَّه لا شكَّ أنَّ اسْتِئثارَ الوُلاةِ بالمالِ
دونَ الرَّعيَّةِ يُوجِبُ أنْ تَثورَ الرَّعيَّةُ، وتُطالِبَ بحقِّها، خاصَّةً
لمَن كان همْ سَببًا في هذا المالِ وتلك المَناصِبِ، ولكنَّ الرَّسولَ ﷺ أمَر بالصَّبرِ على هذا، وأنْ نَقومَ بما يجِبُ
علينا، ونَسْألَ اللهَ الَّذي لنا.
وإنَّما وَجهُ المُناسَبةِ بيْن الجَوابِ
والسُّؤالِ أنَّ مِن شَأنِ العامِلِ الاسْتِئْثارَ، إلَّا مَن عصَم اللهُ، فأشفَقَ
عليه ﷺ مِن أنْ يقَعَ فيما يقَعُ فيه بعضُ مَن
يَأْتي بعْدَه مِن المُلوكِ، فيَسْتأثِرَ على ذَوي الحُقوقِ، وقيلَ: إنَّما
السِّرُّ في جَوابِه ﷺ عن طلَبِ الوِلايةِ
بقَولِه: «ستَرَوْنَ بَعدي أثَرةً»، إرادةُ نَفيِ ظَنِّه أنَّه آثَرَ الَّذي
وَلَّاه عليه، فبيَّنَ له أنَّ ذلك لا يقَعُ في زَمانِه ﷺ،
وإنَّه لم يَخُصَّه بذلك لذاتِه؛ بلْ لعُمومِ مَصلَحةِ المُسلِمينَ، وأنَّ
الاسْتِئْثارَ للحَظِّ الدُّنيَويِّ إنَّما يقَعُ بعْدَه، وأمَرَهم عندَ وُقوعِ
ذلك بالصَّبرِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ الأمرِ بالصَّبرِ
عندَ ظُلمِ الوُلاةِ، واسْتِئْثارِهم.
وفيه: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه ﷺ.
وفيه: بَيانُ مَنقَبةِ الأنْصارِ، حيث
أمَرَهمُ النَّبيُّ ﷺ بالصَّبرِ، ووعَدَهم أنْ
يَرِدوا عليه الحَوضَ.
[١] أخرجه البخاري: (٧٠٥٢)، ومسلم:
(١٨٤٣).
[٢] أخرجه البخاري: (٧٠٥٧)، ومسلم:
(١٨٤٥).
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: