باب من نام عند السحر
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب
التَّهَجُّدِ: بَابُ مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ.
١١٣١- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ،
أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ
العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ: «أَحَبُّ
الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ
الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ
وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا».
الشرح:
قوله: (باب من نام عند السحر) في
رواية الأصيلي والكشميهني "السحور" ولكل منهما وجه، والأول أوجه.
وأورد المصنف فيه ثلاثة أحاديث: أحدها لعبد الله بن عمرو،
والآخران لعائشة.
قوله في حديث عبد الله بن عمر: (أن عمرو
بن أوس أخبره) أي: ابن أبي أوس الثقفي الطائفي، وهو تابعي كبير،
ووهم من ذكره في الصحابة، وإنما الصحبة لأبيه.
قوله: «أحب الصلاة إلى
الله صلاة داود» قال المهلب: كان داود عليه
السلام، يجم نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه: هل من
سائل فأعطيه سؤله. ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل،
وهذا هو النوم عند السحر كما ترجم به المصنف، وإنما صارت هذه الطريقة أحب من أجل
الأخذ بالرفق للنفس التي يخشى منها السآمة، وقد قال ﷺ:
"إن الله لا يمل حتى تملوا" والله يحب أن يديم فضله ويوالي إحسانه،
وإنما كان ذلك أرفق؛ لأن النوم بعد القيام يريح البدن، ويذهب ضرر السهر، وذبول الجسم،
بخلاف السهر إلى الصباح.
وفيه من المصلحة أيضا: استقبال صلاة
الصبح، وأذكار النهار بنشاط وإقبال، وأنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس
الأخير أصبح ظاهر اللون سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفي عمله الماضي على من
يراه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد، وحكي عن قوم أن معنى قوله: "أحب
الصلاة"؛ هو بالنسبة إلى من حاله مثل حال المخاطب بذلك، وهو من يشق عليه قيام
أكثر الليل، قال: وعمدة هذا القائل اقتضاء القاعدة زيادة الأجر بسبب زيادة العمل،
لكن يعارضه هنا اقتضاء العادة والجبلة التقصير في حقوق يعارضها طول القيام، ومقدار
ذلك الفائت مع مقدار الحاصل من القيام غير معلوم لنا. فالأولى أن يجري الحديث على
ظاهره وعمومه، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة، فمقدار تأثير كل واحد منهما في الحث
أو المنع غير محقق لنا، فالطريق أننا نفوض الأمر إلى صاحب الشرع، ونجري على ما دل
عليه اللفظ مع ما ذكرناه من قوة الظاهر هنا. والله أعلم.
(تنبيه): قال ابن التين: هذا
المذكور إذا أجريناه على ظاهره فهو في حق الأمة، وأما النبي ﷺ فقد أمره الله تعالى بقيام أكثر الليل، فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}
[المزمل: ١-٢] انتهى. وفيه نظر؛ لأن هذا الأمر قد نسخ كما سيأتي، وقد
تقدم في حديث ابن عباس: "فلما كان نصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده
بقليل" وهو نحو المذكور هنا. نعم سيأتي بعد ثلاثة أبواب أنه ﷺ لم يكن يجري الأمر في ذلك على وتيرة واحدة. والله
أعلم.
قوله: «وأحب الصيام إلى الله صيام داود» يأتي
فيه ما تقدم في الصلاة، وستأتي بقية مباحثه في كتاب الصيام، إن شاء الله تعالى.
قوله: «كان ينام نصف الليل إلخ» في
رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار عند مسلم (كان يرقد
شطر الليل، ثم يقوم ثلث الليل بعد شطره) قال ابن جريج: قلت لعمرو
بن دينار عمرو بن أوس هو الذي يقول: يقوم ثلث الليل؟ قال: نعم. انتهى. وظاهره
أن تقدير القيام بالثلث من تفسير الراوي فيكون في الرواية الأولى إدراج، ويحتمل أن
يكون قوله: "عمرو بن أوس ذكره"، أي: بسنده فلا يكون مدرجا. وفي
رواية ابن جريج من الفائدة ترتيب ذلك بثم، ففيه رد على من أجاز في حديث
الباب أن تحصل السُنّة بنوم السدس الأول مثلا، وقيام الثلث، ونوم النصف الأخير،
والسبب في ذلك أن الواو لا ترتب.
(تنبيه): قال ابن رشيد: الظاهر
من سياق حديث عبد الله بن عمرو مطابقة ما ترجم له، إلا أنه ليس نصا فيه،
فبينه بالحديث الثالث، وهو قول عائشة: "ما ألفاه السحر عندي إلا نائما".
١١٣٢- حَدَّثَنِي عَبْدَانُ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ
مَسْرُوقًا، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَيُّ العَمَلِ
كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؟ قَالَتْ:
الدَّائِمُ، قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ
الصَّارِخَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَشْعَثِ، قَالَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ
قَامَ فَصَلَّى.
الشرح:
وأما حديث عائشة الأول
فوالد عبدان اسمه عثمان بن جبلة بفتح الجيم والموحدة، وقوله: "عن أشعث"؛
هو ابن أبي الشعثاء المحاربي، وقوله: "الدائم"؛ أي: المواظبة العرفية. وقوله:
"الصارخ"، أي: الديك. ووقع في مسند الطيالسي في هذا الحديث:
"الصارخ: الديك" والصرخة: الصيحة الشديدة، وجرت العادة بأن الديك يصيح
عند نصف الليل غالبا، قاله محمد بن محمد بن ناصر، قال ابن التين: وهو
موافق لقول ابن عباس: "نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل"
وقال ابن بطال: الصارخ
يصرخ عند ثلث الليل، وكان داود يتحرى الوقت الذي ينادي الله فيه: "هل
من سائل"، كذا قال، والمراد بالدوام قيامه كل ليلة في ذلك الوقت لا الدوام
المطلق.
قوله: (حدثنا محمد) زاد أبو
ذر في رواية "ابن سلام"، وكذا نسبه أبو عليّ بن السكن،
وذكر الجياني أنه وقع في رواية أبي ذر، عن أبي محمد السرخسي:
"محمد بن سالم" بتقديم
الألف على اللام، قال أبو الوليد الباجي: سألت أبا ذر، فقال
لي: أراه ابن سلام، وسها فيه أبو محمد. قلت: وليس في
شيوخ البخاري أحد يقال له: محمد
بن سالم.
قوله: (عن الأشعث) يعني:
بإسناده المذكور، وظن بعضهم أنه موقوف على أشعث، فأخطأ، فقد أخرجه مسلم،
عن هناد بن السري، وأبو داود، عن إبراهيم بن موسى
الرازي كلاهما عن أبي الأحوص، بهذا الإسناد بلفظ: "سألت عائشة عن
صلاة رسول الله ﷺ، فقلت لها: أي حين كان يصلي؟
قالت: إذا سمع الصارخ قام فصلى". لفظ إبراهيم،
وزاد مسلم في أوله: "كان يحب الدائم". وللإسماعيلي من
رواية خلف بن هشام، عن أبي الأحوص بالإسناد: "سألت عائشة: أي
العمل كان أحب إلى رسول الله ﷺ؟ قالت: أدومه". قال الإسماعيلي: لم
يذكر البخاري في رواية أبي الأحوص بعد الأشعث أحدا،
وأفادت هذه الرواية ما كان يصنع إذا قام؛ وهو قوله: "قام فصلى". بخلاف
رواية شعبة، فإنها مجملة.
وفي هذا الحديث الحث على المداومة على العمل، وإن قل، وفيه الاقتصاد في العبادة، وترك التعمق فيها؛ لأن ذلك أنشط، والقلب به أشد انشراحا.
١١٣٣- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ذَكَرَ أَبِي،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا
أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا، تَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ.
الشرح:
وأما حديث عائشة الثاني، فوالد إبراهيم
بن سعد هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف،
وعبر موسى عن إبراهيم بقوله: "ذكر أبي"، وقد
رواه أبو داود، عن أبي توبة، فقال: "حدثنا إبراهيم بن سعد، عن
أبيه". وأخرجه الإسماعيلي، عن الحسن بن سفيان، عن جمعة بن عبد
الله، عن إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن عمه أبي سلمة بن عبد
الرحمن به.
قوله: (ما ألفاه) بالفاء؛ أي وجده،
والسحر مرفوع بأنه فاعله. والمراد نومه بعد القيام الذي مبدؤه عند سماع الصارخ
جمعا بينه وبين رواية مسروق التي قبلها.
قوله: (تعني النبي ﷺ) في رواية محمد بن بشر، عن سعد بن
إبراهيم عند مسلم "ما ألفى رسول الله ﷺ
السحر على فراشي -أو عندي- إلا نائما". وأخرجه الإسماعيلي،
عن محمود الواسطي، عن زكريا بن يحيى، عن إبراهيم بن سعد بلفظ:
"ما ألفى النبي ﷺ عندي بالأسحار إلا وهو
نائم" وفي هذا التصريح برفع الحديث.
(تنبيه): قال ابن التين: قولها:
"إلا نائما" تعني مضطجعا على جنبه؛ لأنها قالت في حديث آخر: "فإن
كنت يقظانة حدثني، وإلا اضطجع". انتهى. وتعقبه ابن رشيد بأنه لا
ضرورة لحمل هذا التأويل؛ لأن السياق ظاهر في النوم حقيقة، وظاهر في المداومة على
ذلك، ولا يلزم من أنه كان ربما لم ينم وقت السحر هذا التأويل، فدار الأمر بين حمل
النوم على مجاز التشبيه أو حمل التعميم على إرادة التخصيص، والثاني أرجح، وإليه
ميل البخاري؛ لأنه ترجم بقوله: "من نام عند السحر"، ثم ترجم عقبه
بقوله: "من تسحر فلم ينم"، فأومأ إلى تخصيص رمضان من غيره، فكأن العادة
جرت في جميع السُنّة أنه كان ينام عند السحر، إلا في رمضان، فإنه كان يتشاغل
بالسحور في آخر الليل، ثم يخرج إلى صلاة الصبح عقبه. وقال ابن بطال: النوم وقت
السحر كان يفعله النبي ﷺ في الطوال، وفي
شهر رمضان، كذا قال، ويحتاج في إخراج الليالي القصار إلى دليل.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال

ليست هناك تعليقات: