Top Ad unit 728 × 90

أخبار المدونة

احاديث نبوية شريفة

باب إنما جعل الإمام ليؤتم به

فتح الباري شرح صحيح البخاري

ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

باب – إنما – جعل – الإمام – ليؤتم - به

باب إنما جعل الإمام ليؤتم به


فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ بَابٌ: إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ.

وَصَلَّى النَّبِيُّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإِمَامِ يَعُودُ، فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الإِمَامَ.

وَقَالَ الحَسَنُ: فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ، يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُولَى بِسُجُودِهَا، وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ: يَسْجُدُ.

 

٦٨٧- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ النَّبِيُّ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ». قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ : «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ» قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ»، فَقَعَدَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» فَقُلْنَا: لاَ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لِصَلاَةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا-: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا العَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ، قَالَ: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ»، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ ، وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ قَاعِدٌ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَلاَ أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ ، قَالَ: هَاتِ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا، فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ العَبَّاسِ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

 

الشرح:

قوله: (باب إنما جعل الإمام ليؤتم به) هذه الترجمة قطعة من الحديث الآتي في الباب، والمراد بها أن الائتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصلاة، فتنتفي المقارنة والمسابقة والمخالفة إلا ما دل الدليل الشرعي عليه، ولهذا صدر المصنف الباب بقوله "وصلى النبي في مرضه الذي توفي فيه وهو جالس، أي: والناس خلفه قياما ولم يأمرهم بالجلوس كما سيأتي، فدل على دخول التخصيص في عموم قوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به".

قوله: (وقال ابن مسعود إلخ) وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وسياقه أتم ولفظه "لا تبادروا. أئمتكم بالركوع ولا بالسجود، وإذا رفع أحدكم رأسه والإمام ساجد فليسجد، ثم ليمكث قدر ما سبقه به الإمام" انتهى. وكأنه أخذه من قوله : "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، ومن قوله: "وما فاتكم فأتموا". وروى عبد الرزاق عن عمر نحو قول ابن مسعود ولفظه "أيما رجل رفع رأسه قبل الإمام في ركوع أو سجود فليضع رأسه بقدر رفعه إياه" وإسناده صحيح، قال الزين بن المنير: إذا كان الرافع المذكور يؤمر عنده بقضاء القدر الذي خرج فيه عن الإمام فأولى أن يتبعه في جملة السجود فلا يسجد حتى يسجد، وظهرت بهذا مناسبة هذا الأثر للترجمة.

قوله: (قال الحسن إلخ) فيه فرعان: أما الفرع الأول فوصله ابن المنذر في كتابه الكبير ورواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس عن الحسن ولفظه "في الرجل يركع يوم الجمعة فيزحمه الناس فلا يقدر على السجود، قال فإذا فرغوا من صلاتهم سجد سجدتين لركعته الأولى ثم يقوم فيصلي ركعة وسجدتين" ومقتضاه أن الإمام لا يتحمل الأركان، فمن لم يقدر على السجود معه لم تصح له الركعة، ومناسبته للترجمة من جهة أن المأموم لو كان له أن ينفرد عن الإمام لم يستمر متابعا في صلاته التي اختل بعض أركانها حتى يحتاج إلى تداركه بعد فراغ الإمام.

وأما الفرع الثاني فوصله ابن أبي شيبة وسياقه أتم ولفظه "في رجل نسي سجدة من أول صلاته فلم يذكرها حتى كان آخر ركعة من صلاته، قال يسجد ثلاث سجدات، فإن ذكرها قبل السلام يسجد سجدة واحدة، وإن ذكرها بعد انقضاء الصلاة يستأنف الصلاة" وقد تقدم الكلام على حديث عائشة الأول في "باب حد المريض أن يشهد الجماعة" وقد ذكرنا مناسبته للترجمة قبل، وقوله فيه "ضعوني ماء" كذا للمستملي والسرخسي بالنون وللباقين "ضعوا لي" وهو أوجه، وكذلك أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه، والأول كما قال الكرماني محمول على تضمين الوضع معنى الإعطاء أو على نزع الخافض، أي: ضعوني في ماء. والمخضب تقدم الكلام عليه في أبواب الوضوء، وأن الماء الذي اغتسل به كان من سبع قرب، وذكرت حكمة ذلك هناك.

قوله: (ذهب) في رواية الكشميهني "ثم ذهب".

 

(لينوء) بضم النون بعدها مدة، أي: لينهض بجهد قوله: (فأغمي عليه) فيه أن الإغماء جائز على الأنبياء؛ لأنه شبيه بالنوم، قال النووي: جاز عليهم؛ لأنه مرض من الأمراض بخلاف الجنون فلم يجز عليهم؛ لأنه نقص.

قوله: (ينتظرون النبي -عليه السلام- لصلاة العشاء) كذا للأكثر بلام التعليل، وفي رواية المستملي والسرخسي "لصلاة العشاء الآخرة"، وتوجيهه أن الراوي كأنه فسر الصلاة المسئول عنها في قوله أصلى الناس فذكره، أي: الصلاة المسئول عنها هي العشاء الآخرة.

 

قوله: (فخرج بين رجلين) كذا للكشميهني وللباقين "وخرج" بالواو.

قوله: (لصلاة الظهر) هو صريح في أن الصلاة المذكورة كانت الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، واستدل بقوله في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس وأخذ رسول الله القراءة من حيث بلغ أبو بكر هذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن، لكن في الاستدلال به نظر لاحتمال أن يكون سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان هو يسمع الآية أحيانا في الصلاة السرية كما سيأتي من حديث أبي قتادة، ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح بل يحتمل أن تكون المغرب، فقد ثبت في الصحيحين عن أم الفضل بنت الحارث قالت "سمعت رسول الله يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" وهذا لفظ البخاري، وسيأتي في باب الوفاة من آخر المغازي، لكن وجدت بعد في النسائي أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته، وقد صرح الشافعي بأنه لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعدا، وكان أبو بكر فيها أولا إماما ثم صار مأموما يسمع الناس التكبير.

قوله: (فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم) كذا للأكثر، وللمستملي والسرخسي "وهو يأتم" من الائتمام، واستدل بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدا، لأنه استخلف أبا بكر ولم يصل بهم قاعدا غير مرة واحدة، واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور بمثله وبالقائم أيضا، وخالف في ذلك مالك في المشهور عنه ومحمد بن الحسن فيما حكاه الطحاوي، ونقل عنه أن ذلك خاص بالنبي ، واحتج بحديث جابر عن الشعبي مرفوعا لا يؤمن أحد بعدي جالسا واعترضه الشافعي فقال: قد علم من احتج بهذا أن لا حجة فيه؛ لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه، يعني: جابرا الجعفي، وقال ابن بزيزة: لو صح لم يكن فيه حجة؛ لأنه يحتمل أن يكون المراد منع الصلاة بالجالس، أي: يعرب قوله جالسا مفعولا لا حالا. وحكى عياض عن بعض مشايخهم أن الحديث المذكور يدل على نسخ أمره المتقدم لهم بالجلوس لما صلوا خلفه قياما. وتعقب بأن ذلك يحتاج لو صح إلى تاريخ، وهو لا يصح. لكنه زعم أنه تقوى بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم، قال: والنسخ لا يثبت بعد النبي ، لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث المذكور. وتعقب بأن عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع، ثم لو سلم لا يلزم منه عدم الجواز لاحتمال أن يكونوا اكتفوا باستخلاف القادر على القيام للاتفاق على أن صلاة القاعد بالقائم مرجوحة بالنسبة إلى صلاة القائم بمثله، وهذا كاف في بيان سبب تركهم الإمامة من قعود، واحتج أيضا بأنه إنما صلى بهم قاعدا؛ لأنه لا يصح التقدم بين يديه لنهي الله عن ذلك؛ ولأن الأئمة شفعاء ولا يكون أحد شافعا له، وتعقب بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف، وهو ثابت بلا خلاف.


وصح أيضا أنه صلى خلف أبي بكر كما قدمناه. والعجب أن عمدة مالك في منع إمامة القاعد قول ربيعة: إن النبي كان في تلك الصلاة مأموما خلف أبي بكر، وإنكاره أن يكون أم في مرض موته قاعدا كما حكاه عنه الشافعي في الأم، فكيف يدعي أصحابه عدم تصوير أنه صلى مأموما؟ وكأن حديث إمامته المذكور لما كان في غاية الصحة ولم يمكنهم رده سلكوا في الانتصار وجوها مختلفة، وقد تبين بصلاته خلف عبد الرحمن بن عوف أن المراد بمنع التقدم بين يديه في غير الإمامة، وأن المراد بكون الأئمة شفعاء، أي: في حق من يحتاج إلى الشفاعة. ثم لو سلم أنه لا يجوز أن يؤمه أحد لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أم قاعدا جماعة من الصحابة بعده منهم أسيد بن حضير وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد كما سيأتي.

وقال أبو بكر بن العربي: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلا أني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي والتبرك به وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره. وأيضا فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، ويتصور في حق غيره. والجواب عن الأول رده بعموم قوله : "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم، واستدل به على نسخ الأمر بصلاة المأموم قاعدا إذا صلى الإمام قاعدا لكونه أقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، هكذا قرره الشافعي، وكذا نقله المصنف في آخر الباب عن شيخه الحميدي وهو تلميذ الشافعي، وبذلك يقول أبو حنيفة وأبو يوسف والأوزاعي، وحكاه الوليد بن مسلم عن مالك، وأنكر أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين: إحداهما إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه فحينئذ يصلون خلفه قعودا، ثانيتهما إذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي ، فإن تقريره لهم على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائما وصلوا معه قياما، بخلاف الحالة الأولى فإنه ابتدأ الصلاة جالسا فلما صلوا خلفه قياما أنكر عليهم. ويقوي هذا الجمع أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعدا، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعدا، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضي وقوع النسخ مرتين وهو بعيد، وأبعد منه ما تقدم عن نقل عياض فإنه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات، وقد قال بقول أحمد جماعة من محدثي الشافعية كابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة أخرى منها قول ابن خزيمة: إن الأحاديث التي وردت بأمر المأموم أن يصلي قاعدا تبعا لإمامه لم يختلف في صحتها ولا في سياقها، وأما صلاته قاعدا فاختلف فيها هل كان إماما أو مأموما.

قال: وما لم يختلف فيه لا ينبغي تركه لمختلف فيه. وأجيب: بدفع الاختلاف والحمل على أنه كان إماما مرة ومأموما أخرى. ومنها أن بعضهم جمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز، فعلى هذا الأمر من أم قاعدا لعذر تخير من صلى خلفه بين القعود والقيام، والقعود أولى لثبوت الأمر بالائتمام والاتباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك. وأجاب ابن خزيمة عن استبعاد من استبعد ذلك بأن الأمر قد صدر من النبي بذلك واستمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، فروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن قيس بن قهد بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري "أن إماما لهم اشتكى لهم على عهد رسول الله قال: فكان يؤمنا وهو جالس ونحن جلوس". وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أسيد بن حضير "أنه كان يؤم قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم فقال: إني لا أستطيع أن أصلي قائما فاقعدوا، فصلى بهم قاعدا وهم قعود".

وروى أبو داود من وجه آخر عن أسيد بن حضير أنه قال يا رسول الله إن إمامنا مريض، قال: إذا صلى قاعدا فصلوا قعودا وفي إسناده انقطاع. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر "أنه اشتكى، فحضرت الصلاة فصلى بهم جالسا وصلوا معه جلوسا" وعن أبي هريرة أنه أفتى بذلك وإسناده صحيح أيضا، وقد ألزم ابن المنذر من قال بأن الصحابي أعلم بتأويل ما روي بأن يقول بذلك؛ لأن أبا هريرة وجابرا رويا الأمر المذكور، واستمرا على العمل به والفتيا بعد النبي ، ويلزم ذلك من قال إن الصحابي إذا روى وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل من باب الأولى؛ لأنه هنا عمل بوفق ما روى. وقد ادعى ابن حبان الإجماع على العمل به وكأنه أراد السكوت؛ لأنه حكاه عن أربعة من الصحابة الذين تقدم ذكرهم وقال: إنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة غيرهم القول بخلافه لا من طريق صحيح ولا ضعيف. وكذا قال ابن حزم إنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، ثم نازع في ثبوت كون الصحابة صلوا خلفه وهو قاعد قياما غير أبي بكر، قال: لأن ذلك لم يرد صريحا، وأطال في ذلك بما لا طائل فيه. والذي ادعى نفيه قد أثبته الشافعي وقال: إنه في رواية إبراهيم عن الأسود عن عائشة، ثم وجدته مصرحا به أيضا في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء فذكر الحديث ولفظه فصلى النبي قاعدا وجعل أبو بكر وراءه بينه وبين الناس وصلى الناس وراءه قياما. وهذا مرسل يعتضد بالرواية التي علقها الشافعي عن النخعي، وهذا هو الذي يقتضيه النظر، فإنهم ابتدءوا الصلاة مع أبي بكر قياما بلا نزاع، فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان. ثم رأيت ابن حبان استدل على أنهم قعدوا بعد أن كانوا قياما بما رواه من طريق أبي الزبير عن جابر قال اشتكى رسول الله فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، قال فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا. فلما سلم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، فلا تفعلوا الحديث.

وهو حديث صحيح أخرجه مسلم، لكن ذلك لم يكن في مرض موته، وإنما كان ذلك حيث سقط عن الفرس كما في رواية أبي سفيان عن جابر أيضا قال ركب رسول الله فرسا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه الحديث أخرجه أبو داود وابن خزيمة بإسناد صحيح، فلا حجة على هذا لما ادعاه، إلا أنه تمسك بقوله في رواية أبي الزبير "وأبو بكر يسمع الناس التكبير" وقال إن ذلك لم يكن إلا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يسمعهم تكبيره بخلاف صلاته في مرض موته فإنها كانت في المسجد بجمع كثير من الصحابة فاحتاج أبو بكر أن يسمعهم التكبير. انتهى.

ولا راحة له فيما تمسك به؛ لأن إسماع التكبير في هذا لم يتابع أبا الزبير عليه أحد، وعلى تقدير أنه حفظه فلا مانع أن يسمعهم أبو بكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يحمل على أن صوته كان خفيا من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتكبير فكان أبو بكر يجهر عنه بالتكبير لذلك. ووراء ذلك كله أنه أمر محتمل لا يترك لأجله الخبر الصريح بأنهم صلوا قياما كما تقدم في مرسل عطاء وغيره، بل في مرسل عطاء أنهم استمروا قياما إلى أن انقضت الصلاة. نعم وقع في مرسل عطاء المذكور متصلا به بعد قوله: وصلى الناس وراءه قياما فقال النبي : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعودا، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا. وهذه الزيادة تقوي ما قال ابن حبان إن هذه القصة كانت في مرض موت النبي ، ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعودا إذا صلى إمامهم قاعدا؛ لأنه لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإعادة، لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعودا على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم وترك أمرهم بالإعادة. هذا مقتضى الجمع بين الأدلة وبالله التوفيق والله أعلم. وقد تقدم الكلام على باقي فوائد هذا الحديث في "باب حد المريض أن يشهد الجماعة".

 

٦٨٨- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ، فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا».

 

الشرح:

قوله: (في بيته) أي: في المشربة التي في حجرة عائشة كما بينه أبو سفيان عن جابر، وهو دال على أن تلك الصلاة لم تكن في المسجد، وكأنه عجز عن الصلاة بالناس في المسجد فكان يصلي في بيته بمن حضر، لكنه لم ينقل أنه استخلف، ومن ثم قال عياض: إن الظاهر أنه صلى في حجرة عائشة وائتم به من حضر عنده ومن كان في المسجد، وهذا الذي قاله محتمل، ويحتمل أيضا أن يكون استخلف وإن لم ينقل، ويلزم على الأول صلاة الإمام أعلى من المأمومين ومذهب عياض خلافه، لكن له أن يقول محل المنع ما إذا لم يكن مع الإمام في مكانه العالي أحد وهنا كان معه بعض أصحابه.

قوله: (وهو شاك) بتخفيف الكاف بوزن قاض من الشكاية وهي المرض، وكان سبب ذلك ما في حديث أنس المذكور بعده أن سقط عن فرس.

قوله: (فصلى جالسا) قال عياض: يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام. قال: وليس كذلك، وإنما كانت قدمه انفكت كما في رواية بشير بن المفضل عن حميد عن أنس الإسماعيلي، وكذا لأبي داود وابن خزيمة من رواية أبي سفيان عن جابر كما قدمناه. وأما قوله في رواية الزهري عن أنس بن مالك "جحش شقه الأيمن" وفي رواية يزيد عن حميد عن أنس "جحش ساقه" أو "كتفه" كما تقدم في "باب الصلاة على السطوح" فلا ينافي ذلك كون قدمه انفكت لاحتمال وقوع الأمرين، وقد تقدم تفسير الجحش بأنه الخدش، والخدش قشر الجلد، ووقع عند المصنف في "باب يهوي بالتكبير" من رواية سفيان عن الزهري عن أنس قال سفيان: حفظت من الزهري شقه الأيمن، فلما خرجنا قال ابن جريج: ساقه الأيمن.

قلت: ورواية ابن جريج أخرجها عبد الرزاق عنه، وليست مصحفة كما زعم بعضهم لموافقة رواية حميد المذكورة لها، وإنما هي مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه. وحاصل ما في القصة أن عائشة أبهمت الشكوى. وبين جابر، وأنس السبب وهو السقوط عن الفرس، وعين جابر العلة في الصلاة قاعدا وهي انفكاك القدم، وأفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة .

قوله: (وصلى وراءه قوم قياما) ولمسلم من رواية عبدة عن هشام فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه الحديث، وقد سمي منهم في الأحاديث أنس كما في الحديث الذي بعده عند الإسماعيلي، وجابر كما تقدم، وأبو بكر كما في حديث جابر، وعمر كما في رواية الحسن مرسلا عند عبد الرزاق.

قوله: (فأشار إليهم) كذا للأكثر هنا من الإشارة، وكذا لجميعهم في الطب من رواية يحيى القطان عن هشام، ووقع هنا للحموي "فأشار عليهم" من المشورة، والأول أصح فقد رواه أيوب عن هشام بلفظ "فأومأ إليهم" ورواه عبد الرزاق عن معمر عن هشام بلفظ فأخلف بيده يومئ بها إليهم وفي مرسل الحسن "ولم يبلغ بها الغاية".

قوله: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» قال البيضاوي وغيره: الائتمام الاقتداء والاتباع، أي: جعل الإمام إماما ليقتدى به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال. وقال النووي وغيره: متابعة الإمام واجبة في الأفعال الظاهرة، وقد نبه عليها في الحديث فذكر الركوع وغيره بخلاف النية فإنها لم تذكر وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ الآتية. ويمكن أن يستدل من هذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثا أو حامل نجاسة فإن الصلاة خلفه تصح لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء، ثم مع وجوب المتابعة ليس بشيء منها شرطا في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام، واختلف في الائتمام والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، وخالف الحنفية فقالوا: تكفي المقارنة، قالوا لأن معنى الائتمام الامتثال ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلا، وسيأتي بعد باب الدليل على تحريم التقدم على الإمام في الأركان.

قوله: «فإذا ركع فاركعوا» قال ابن المنير: مقتضاه أن ركوع المأموم يكون بعد ركوع الإمام إما بعد تمام انحنائه وإما أن يسبقه الإمام بأوله فيشرع فيه بعد أن يشرع، قال: وحديث أنس أتم من حديث عائشة؛ لأنه زاد فيه المتابعة في القول أيضا.

قلت: قد وقعت الزيادة المذكورة وهي قوله : "وإذا قال سمع الله لمن حمده" في حديث عائشة أيضا، ووقع في رواية الليث عن الزهري عن أنس زيادة أخرى في الأقوال وهي قوله في أوله "فإذا كبر فكبروا" وسيأتي في "باب إيجاب التكبير" وكذا فيه من رواية الأعرج عن أبي هريرة، وزاد في رواية عبدة عن هشام في الطب "وإذا رفع فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا" وهو يتناول الرفع من الركوع والرفع من السجود وجميع السجدات، وكذا وردت زيادة ذلك في حديث أنس الذي في الباب، وقد وافق عائشة وأنسا وجابرا على رواية هذا الحديث دون القصة التي في أوله أبو هريرة، وله طرق عنه عند مسلم منها ما اتفق عليه الشيخان من رواية همام عنه كما سيأتي في "باب إقامة الصف" وفيه جميع ما ذكر في حديث عائشة وحديث أنس بالزيادة، وزاد أيضا بعد قوله ليؤتم به: "لا فلا تختلفوا عليه" ولم يذكرها المصنف في رواية أبي الزناد عن الأعرج عنه من طريق شعيب عن أبي الزناد في "باب إيجاب التكبير" لكن ذكرها السراج والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في المستخرج عنه من طريق أبي اليمان شيخ البخاري فيه وأبو عوانة من رواية بشر بن شعيب عن أبيه شيخ أبي اليمان ومسلم من رواية مغيرة بن عبد الرحمن والإسماعيلي من رواية مالك وورقاء كلهم عن أبي الزناد شيخ شعيب. وأفادت هذه الزيادة أن الأمر بالاتباع يعم جميع المأمومين ولا يكفي في تحصيل الائتمام اتباع بعض دون بعض، ولمسلم من رواية الأعمش عن أبي صالح عنه "لا تبادروا الإمام، إذا كبر فكبروا" الحديث، زاد أبو داود من رواية مصعب بن محمد عن أبي صالح "ولا تركعوا حتى يركع ولا تسجدوا حتى يسجد" وهي زيادة حسنة تنفي احتمال إرادة المقارنة من قوله إذا كبر فكبروا.

 

(فائدة): جزم ابن بطال ومن تبعه حتى ابن دقيق العيد أن الفاء في قوله: "فكبروا" للتعقيب، قالوا ومقتضاه الأمر بأن أفعال المأموم تقع عقب فعل الإمام، لكن تعقب بأن الفاء التي للتعقيب هي العاطفة، وأما التي هنا فهي للربط فقط؛ لأنها وقعت جوابا للشرط، فعلى هذا لا تقتضي تأخر أفعال المأموم عن الإمام إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء، وقد قال قوم إن الجزاء يكون مع الشرط، فعلى هذا لا تنفي المقارنة، لكن رواية أبي داود هذه صريحة في انتقاء التقدم والمقارنة، والله أعلم.

 

٦٨٩- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَكِبَ فَرَسًا، فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ».

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ الحُمَيْدِيُّ: قَوْلُهُ: «إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا» هو فِي مَرَضِهِ القَدِيمِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ جَالِسًا، وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا، لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالقُعُودِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ، مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ .

 

الشرح:

قوله: «فقولوا ربنا ولك الحمد» كذا لجميع الرواة في حديث عائشة بإثبات الواو، وكذا لهم في حديث أبي هريرة وأنس إلا في رواية الليث عن الزهري في "باب إيجاب التكبير" فللكشميهني بحذف الواو ورجح إثبات الواو بأن فيها معنى زائدا لكونها عاطفة على محذوف تقديره ربنا استجب أو ربنا أطعناك ولك الحمد فيشتمل على الدعاء والثناء معا، ورجح قوم حذفها؛ لأن الأصل عدم التقدير فتكون عاطفة على كلام غير تام، والأول أوجه كما قال ابن دقيق العيد. وقال النووي: ثبتت الرواية بإثبات الواو وحذفها، والوجهان جائزان بغير ترجيح، وسيأتي في أبواب صفة الصلاة الكلام على زيادة "اللهم" قبلها، ونقل عياض عن القاضي عبد الوهاب أنه استدل به على أن الإمام يقتصر على قوله "سمع الله لمن حمده" وأن المأموم يقتصر على قوله "ربنا ولك الحمد" وليس في السياق ما يقتضي المنع من ذلك؛ لأن السكوت عن الشيء لا يقتضي ترك فعله، نعم مقتضاه أن المأموم يقول "ربنا لك الحمد" عقب قول الإمام "سمع الله لمن حمده" فأما منع الإمام من قول ربنا ولك الحمد فليس بشيء؛ لأنه ثبت أن النبي كان يجمع بينهما كما سيأتي في "باب ما يقول عند رفع رأسه من الركوع" ويأتي باقي الكلام عليه هناك.

قوله: (عن أنس) في رواية شعيب عن الزهري "أخبرني أنس".

قوله: (فصلى صلاة من الصلوات) في رواية سفيان عن الزهري "فحضرت الصلاة" وكذا في رواية حميد عن أنس عند الإسماعيلي، قال القرطبي: اللام للعهد ظاهرا، والمراد الفرض؛ لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة. وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلا، وتعقب بأن في رواية جابر عند ابن خزيمة وأبي داود الجزم بأنها فرض كما سيأتي، لكن لم أقف على تعيينها، إلا أن في حديث أنس "فصلى بنا يومئذ" فكأنها نهارية، الظهر أو العصر.

قوله: (فصلينا وراءه قعودا) ظاهره يخالف حديث عائشة، والجمع بينهما أن في رواية أنس هذه اختصارا، وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس، وقد تقدم في "باب الصلاة في السطوح" من رواية حميد عن أنس بلفظ فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: إنما جعل الإمام وفيها أيضا اختصار؛ لأنه لم يذكر فيه قوله لهم "اجلسوا"، والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قياما فأومأ إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابر عند مسلم، وجمع القرطبي بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قعد من أول الحال وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس وهذا الذي حكته عائشة. وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه ؛ لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد؛ لأن فرض القادر في الأصل القيام. وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة وفيه بعد؛ لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقة لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت متأخرة لم يحتج إلى إعادة قول "إنما جعل الإمام ليؤتم به إلخ"؛ لأنهم قد امتثلوا أمره السابق وصلوا قعودا لكونه قاعدا.

(فائدة): وقع في رواية جابر عند أبي داود أنهم دخلوا يعودونه مرتين فصلى بهم فيهما، لكن بين أن الأولى كانت نافلة وأقرهم على القيام وهو جالس، والثانية كانت فريضة وابتدءوا قياما فأشار إليهم بالجلوس. وفي رواية بشر عن حميد عن أنس عند الإسماعيلي نحوه.

قوله: «وإذا صلى جالسا» استدل به على صحة إمامة الجالس كما تقدم. وادعى بعضهم أن المراد بالأمر أن يقتدي به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب ذكر الركوع والرفع منه والسجود، قال: فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيما له فأمرهم بالجلوس تواضعا، وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد، وبأن سياق طرق الحديث تأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال وإذا جلس فاجلسوا ليناسب قوله وإذا سجد فاسجدوا، فلما عدل على ذلك إلى قوله "وإذا صلى جالسا" كان كقوله وإذا صلى قائما، فالمراد بذلك جميع الصلاة. ويؤيد ذلك قول أنس "فصلينا وراءه قعودا".

قوله: «أجمعون» كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو، إلا أن الرواة اختلفوا في رواية همام عن أبي هريرة كما سيأتي في "باب إقامة الصف" فقال بعضهم "أجمعين" بالياء والأول تأكيد لضمير الفاعل في قوله "صلوا"، وأخطأ من ضعفه فإن المعنى عليه، والثاني نصب على الحال، أي: جلوسا مجتمعين، أو على التأكيد لضمير مقدر منصوب كأنه قال: أعنيكم أجمعين.

 

وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له سقوط ونحوه بما اتفق للنبي في هذه الواقعة وبه الأسوة الحسنة. وفيه أنه يجوز عليه ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك، بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة.


الحمد لله رب العالمين

اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ

تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال

باب إنما جعل الإمام ليؤتم به Reviewed by احمد خليل on 10:11:00 م Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.