شرح الحديث القدسي / إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا
باب المجاهدة
شرح الحديث القدسي / إذا تقرب العبد
إلي شبرا تقربت إليه ذراعا
أحاديث رياض الصالحين: باب المجاهدة
٩٧ - عن أنس بن مالك -رَضِّيَّ اللهُ
عَنْهُ- عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: «إذا تَقَرَّبَ العبدُ إليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إليه
ذِرَاعًا، وإذا تَقَرَّبَ إليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وإذا أتاني
يمشي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» رواه البخاري.
الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله،
والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فلا ريب أن الحديث المذكور صحيح، فقد
ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنه قال: «يقول
الله عز وجل: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير
منهم، ومن تقرب إلى شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا،
ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» وهذا الحديث الصحيح يدل على عظيم فضل الله عز
وجل، وأنه بالخير إلى عباده أجود، فهو أسرع إليهم بالخير والكرم والجود منهم في
أعمالهم ومسارعتهم إلى الخير والعمل الصالح، ولا مانع من إجراء الحديث على ظاهره
على طريق السلف الصالح، فإن أصحاب النبي ﷺ
سمعوا هذا الحديث من رسول الله ﷺ ولم يعترضوه ولم يسألوا عنه ولم
يتأولوه، وهم صفوة الأمة وخيرها، وهم أعلم الناس باللغة العربية، وأعلم الناس بما
يليق بالله وما يليق نفيه عن الله سبحانه وتعالى.
فالواجب في مثل هذا أن يتلقى بالقبول
وأن يحمل على خير المحامل، وأن هذه الصفة تليق بالله، لا يشابه فيها خلقه، فليس
تقربه إلى عبده مثل تقرب العبد إلى غيره، وليس مشيه كمشيهم، ولا هرولته كهرولتهم،
وهكذا غضبه وهكذا رضاه، وهكذا مجيئه يوم القيامة واتيانه يوم القيامة لفصل القضاء
بين عباده، وهكذا استواؤه على العرش، وهكذا نزوله في آخر الليل كل ليلة، كلها صفات
تليق بالله جل وعلا، لا يشابه فيها خلقه، فكما أن استواءه على العرش ونزوله في آخر
الليل في الثلث الأخير من الليل ومجيئه يوم القيامة لا يشابه استواء خلقه ولا مجيء
خلقه ولا نزول خلقه، فهكذا تقربه إلى عباده العابدين له والمسارعين إلى طاعته،
تقربه إليهم لا يشابه تقربهم، وليس قربه منهم كقربهم منه، وليس مشيه لهم كمشيهم،
ولا هرولته كهرولتهم، بل هو شيء يليق بالله لا يشابهه في خلقه سبحانه وتعالى كسائر
الصفات، فهو أعلم بصفاته وأعلم بكيفيتها عز وجل.
وقد أجمع سلف الأمة على أن الواجب في
صفات الرب وأسمائه إمرارها كما جاءت، واعتقاد معناها، وأنها حق يليق بالله سبحانه
وتعالى، وأنه لا يعلم كيفية صفاته إلا هو، كما أنه لا يعلم كيفية ذاته إلا هو
سبحانه وتعالى. فالصفات كالذات، فكما أن الذات يجب إثباتها لله وأنه سبحانه وتعالى
هو الكامل في ذلك، فهكذا صفاته يجب إثباتها له سبحانه مع الإيمان والاعتقاد بأنها
أكمل الصفات وأعلاها، وأنها لا تشابه صفات الخلق، كما قال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ
وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: ١-٤]، وقال
عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٧٤]، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
[الشورى: ١١] فرد على المشبهة بقوله: {لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] {فَلا
تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: ٧٤]، ورد على المعطلة بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: ١١]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}
[الإخلاص: ١-٢]، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
[البقرة: ٢٢٠]، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
[الحج: ٧٥]، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[البقرة: ١٧٣]، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: ٢٠] إلى غير
ذلك.
فالواجب على المسلمين علماء وعامة؛
الواجب عليهم جميعًا إثبات ما أثبته الله لنفسه إثباتًا بلا تمثيل، ونفي ما نفاه
الله عن نفسه، وتنزيه الله عما نزه عنه نفسه تنزيهًا بلا تعطيل، هكذا يقول أهل
السنة والجماعة من أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم من سلف الأمة كالفقهاء
السبعة، وكمالك بن أنس والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من
أئمة الإسلام، أمروها كما جاءت وأثبتوها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا
تكييف ولا تمثيل.
ومقتضى هذا الحديث أنه سبحانه أسرع
بالخير إليهم وأولى بالجود والكرم ولكن ليس هذا هو المعنى، المعنى شيء، وهذه
الثمرة وهذا المقتضى شيء آخر، فهو يدل على أنه أسرع بالخير إلى عباده منهم، ولكنه
ليس هذا هو المعنى بل المعنى يجب إثباته لله من التقرب والمشي والهرولة شيء، يجب
إثباته لله على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، من غير أن يشابه خلقه في شيء من
ذلك، فنثبته لله على الوجه الذي أراده الله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا
تمثيل. وفق الله الجميع.
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم
مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا
ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: