شرح حديث/ والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع
باب
فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس
شرح
العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
شرح
حديث/ والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع
٥٠٧- وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-
قال: واللَّه الذي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأعَتمِدُ بِكَبِدِي على
الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كُنْتُ لأشُدُّ الحجَرَ على بَطْني منَ الجُوعِ.
وَلَقَدْ قَعَدْتُ يوْماً على طَرِيقهِمُ الذي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ
النَّبِيُّ ﷺ، فَتَبَسَّمَ حِينَ
رَآنِي، وعَرَفَ ما في وجْهي ومَا في نَفْسِي، ثُمَّ قال: «أَبا هِرٍّ» قلتُ: لَبَّيْكَ يا
رسولَ اللَّه، قال: «الحَقْ» ومَضَى،
فَاتَّبَعْتُهُ، فدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لي فدَخَلْتُ، فوَجَدَ لَبَناً
في قَدحٍ فقال: «مِنْ أَيْنَ هذَا اللَّبَنُ؟» قالوا:
أَهْداهُ لَكَ فُلانٌ -أَو فُلانة- قال: «أَبا هِرٍّ» قلتُ:
لَبَّيْكَ يا رسول اللَّه، قال: «الحق إِلى أَهْل
الصُّفَّةِ فادْعُهُمْ لي». قال: وأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضيَافُ الإِسْلام،
لا يَأْوُون عَلى أَهْلٍ، ولا مَالٍ، ولا على أَحَدٍ، وكانَ إِذَا أَتَتْهُ صدقَةٌ
بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ. ولَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئاً، وإِذَا أَتَتْهُ
هديَّةٌ أَرْسلَ إِلَيْهِمْ وأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فيها، فسَاءَني ذلكَ
فَقُلْتُ: وما هذَا اللَّبَنُ في أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتَ أَحَقَّ أَن أُصِيب
منْ هذا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذا جاءُوا أَمَرنِي، فكُنْتُ
أَنا أُعْطِيهِمْ، وما عَسَى أَن يبْلُغَني منْ هذا اللَّبَنِ، ولمْ يَكُنْ منْ
طَاعَةِ اللَّه وطَاعَةِ رسوله ﷺ بدٌّ.
فأَتيتُهُم فدَعَوْتُهُمْ، فأَقْبَلُوا واسْتأْذَنوا، فَأَذِنَ لهُمْ وَأَخَذُوا
مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قال: «يا أَبا هِرّ» قلتُ:
لَبَّيْكَ يا رسولَ اللَّه، قال: «خذْ فَأَعْطِهِمْ» قال:
فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْت أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى،
ثُمَّ يردُّ عليَّ الْقَدَحَ، فَأُعطيهِ الآخرَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يروَى، ثُمَّ
يَرُدُّ عَليَّ الْقَدحَ، حتَّى انْتَهَيتُ إِلى النَّبِيِّ ﷺ،
وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ على يَدِهِ،
فَنَظَرَ إِليَّ فَتَبَسَّمَ، فقال: «أَبا هِرّ» قلتُ:
لَبَّيْكَ يا رسول اللَّه قال: «بَقِيتُ أَنَا
وَأَنْتَ» قلتُ
صَدَقْتَ يا رسولَ اللَّه، قال: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ» فَقَعَدْتُ
فَشَربْتُ: فقال: «اشرَبْ» فشَربْت،
فما زال يَقُولُ: «اشْرَبْ» حَتَّى
قُلْتُ: لا وَالَّذِي بعثكَ بالحَقِّ ما أَجِدُ لَهُ مسْلَكاً، قال: «فَأَرِني» فأَعطيْتهُ الْقَدَحَ،
فحمِدَ اللَّه تعالى، وَسمَّى وَشَربَ "الفَضَلَةَ". [١] رواه البخاري.
الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول
الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
هذه من آيات الله العظيمة، ومن بركته
العظيمة ﷺ، قدح يُحمل على اليد سقى هؤلاء
القوم كلهم وأرواهم، ثم شرب أبو هريرة وهو محتاجٌ جائعٌ شديد الجوع حتى روي، ثم
بقيت فضلةٌ فأخذها عليه الصلاة والسلام.
وفيه تواضعه العظيم، التواضع جعل نفسه
الأخير عليه الصلاة والسلام، في روايةٍ: "كانوا سبعين من أهل الصفة" [٢]،
أمة عظيمة!
وفيه دلالة على أنه كانت عنده ﷺ حُجَر واسعة للضيافة، إذا جاء مثل هؤلاء جلسوا
فيها حتى يطعموا.
وفي هذا من الفوائد: أن ساقي القوم يكون
هو الآخر، والمضيف يكون هو الآخر، إذا كان الشيء فيه قلَّة فيبدأ بالضيوف، إذا كان
الشيء قليلًا يبدأ بالضيوف، إما أن يكون الساقي هو الآخر، وصاحب البيت هو الآخر،
وأما إذا كان الشيء كثيرًا فإنَّ المضيف يُشاركهم ويجلس معهم، كما كان النبيُّ
يأكل مع أضيافه تارةً، وتارةً يُقدّم الأضياف، كما في قصة جابرٍ يوم الأحزاب [٣]،
وقصة أخرى كان يملأ ...... فيُطعمهم عشرة عشرة حتى خلصوا، ثم أكل عليه الصلاة
والسلام، كانوا ثمانين [٤]، في رواية: كانوا ثلاثمئة.
فالمقصود أن السُنّة دلَّت على أن
الأضياف إذا كان الشيء قليلًا بدأ بالأضياف، وكان ساقي الشراب آخرهم، وإن كان
الشيء كثيرًا شاركهم المضيف، وتحدَّث معهم، كفعله عليه الصلاة والسلام تارةً
وتارةً.
وفيه معجزة خارقة للعادة، ومعجزة لهذا
النبي العظيم عليه الصلاة والسلام: فإن قدحًا قليلًا يكفي أمةً كثيرةً ويشربون،
كلما شربوا زاد القدح، كلما شربوا زاد اللبن، حتى يكملهم من جنس الطعام الذي كلما
أكلوا رَبَا.
وأما كون الصديق أعرض، وكون عمر أعرض،
فلعلهما لم يفطنا لجوعه، أو لعلهما ما كان عندهما شيء في البيت، فلهذا أعرضا عنه،
وكانا أحرص الناس على الخير بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فالصديق وعمر هما أفضل
الصحابة، فإعراضهما عن أبي هريرة؛ إما لأنهما لم يفطنا لحاجته، وكانا مشغولين ولم
يفطنا لحاجته وجوعه، أو أنهما كانا يعلمان أنه ما في البيت شيء حتى يدعواه إليه.
وفق الله الجميع.
[١] أخرجه البخاري، كتاب الرقاق،
باب: كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، (٨/٩٦)،
برقم: (٦٤٥٢).
[٢] صحيح البخاري: (٤٤٢).
[٣] أخرجه البخاري: (٣٠٧٠) واللفظ له،
ومسلم: (٢٠٣٩).
[٤] انظر: في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، (٥/١٠٨)، برقم: (٤١٠٢)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (٣/١٦١٠)، برقم: (٢٠٩٣).
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا
ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: