Top Ad unit 728 × 90

أخبار المدونة

احاديث نبوية شريفة

شرح حديث جبريل عليه السلام

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح

علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري

شرح - حديث - جبريل - عليه - السلام

شرح حديث جبريل عليه السلام


2 - [1] (صحيح)

عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه، قال: بينما نحن عند رسول اللّه ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثّياب، شديد سواد الشّعر، لا يرى عليه أثر السّفر، ولا يعرفه منّا أحد، حتّى جلس إلى النّبيّ ، فأسند ركبته إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام. قال: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدا رسول اللّه، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا» قال: صدقت. فعجبنا له يسأله، ويصدّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: «أن تؤمن باللّه وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» قال: فأخبرني عن السّاعة قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السّائل» قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: «أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشّاء، يتطاولون في البنيان». قال: ثمّ انطلق، فلبثت مليّا، ثمّ قال لي: «يا عمر أتدري من السّائل؟» قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: «فإنّه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم» رواه مسلم.


1 - كتاب الإيمان
الكتاب إمّا مأخوذ من الكتب بمعنى الجمع، أو الكتابة، والمعنى هذا مجموع، أو مكتوب في الأحاديث الواردة في الإيمان، وإنّما عنون به مع ذكره الإسلام أيضا؛ لأنّهما بمعنى واحد في الشّرع، وعلى اعتبار المعنى اللّغويّ من الفرق يكون فيه إشارة إلى أنّه الأصل، وعليه مدار الفصل، وقدّمه لزيادة شرفه في الفضل، ولكونه شرطا لصحّة العبادات المتقدّمة على المعاملات، وهو التّصديق الّذي معه أمن، وطمأنينة لغة، وفي الشّرع تصديق القلب ممّا جاء من عند الرّبّ، فكأنّ المؤمن يجعل به نفسه آمنة من العذاب في الدّارين، أو من التّكذيب، والمخالفة، وهو إفعال من الأمن يقال: أمنت وآمنت غيري، ثمّ يقال آمنه إذا صدّقه، وقيل: معنى أمنت صرت ذا أمن ثمّ نقل إلى التّصديق، ويعدّى باللّام نحو: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] وقال فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] وقد يضمّن معنى اعترف فيعدّى بالباء نحو: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] واختلف العلماء فيه على أقوال أوّلها: عليه الأكثرون، والأشعريّ، والمحقّقون أنّه مجرّد تصديق النّبيّ -عليه الصّلاة والسّلام -فيما علم مجيئه بالضّرورة تفصيلا في الأمور التّفصيليّة، وإجمالا في الإجماليّة تصديقا جازما، ولو لغير دليل حتّى يدخل إيمان المقلّد، فهو صحيح على الأصحّ، وما نقل عن الأشعريّ من عدم صحّته ردّ بأنّه كذب عليه، والحاصل أنّ من اعتقد أركان الدّين من التّوحيد، والنّبوّة، ونحو الصّلاة فإن جوّز ورود شبهة تفسد اعتقاده، فهو كافر، وإن لم يجوّز ذلك فهو مؤمن لكنّه فاسق بتركه النّظر، وهذا مذهب الأئمّة الأربعة، والأكثرين؛ لأنّه -عليه الصّلاة والسّلام -قبل الإيمان من غير تفحّص عن الأدلّة العقليّة كذا ذكره ابن حجر، لكن في كونه فاسقا بتركه النّظر نظر ظاهر فتدبّر، ثمّ فهم من قيد مجرّد التّصديق أنّه لا يعتبر معه أعمال الجوارح، ومن الضّرورة أنّ ما ليس كذلك ككونه تعالى عالما بذاته، أو بالعلم الّذي هو صفة زائدة على الذّات، أو مرئيّا لا يكفر منكره إجماعا، ومن الجزم أنّ التّصديق الظّنّيّ لا يكفي في حصول مسمّى الإيمان. وثانيها: أنّه عمل القلب، واللّسان معا فقيل: الإقرار شرط لإجراء الأحكام لا لصحّة الإيمان فيما بين العبد، وربّه. قال حافظ الدّين النّسفيّ: وهذا هو المرويّ عن أبي حنيفة، وإليه ذهب أبو منصور الماتريديّ، والأشعريّ في أصحّ الرّوايتين عنه، وقيل: هو ركن لكنّه غير أصليّ بل زائد، ومن ثمّ يسقط عند الإكراه، والعجز، ولهذا من صدّق ومات فجأة على الفور فإنّه مؤمن إجماعا.

قال بعضهم: والأوّل مذهب المتكلّمين، والثّاني مذهب الفقهاء، والحقّ أنّه ركن عند المطالبة به، وشرط لإجراء الأحكام عند عدم المطالبة، ويدلّ عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الآية. حيث أجمع المفسّرون على أنّها نزلت في أبي طالب، واللّه أعلم بالمطالب. وبهذا يلتئم القولان. والخلافان لفظيّان، وأمّا ما نقل عن الغزاليّ من أنّ الامتناع عن النّطق كالمعاصي الّتي تجامع الإيمان، فهو بظاهره خلاف الإجماع، فيحمل على الامتناع عند عدم المطالبة، غاية ما في الباب أنّه جعل الإقرار من الواجبات لا شرطا، ولا شطرا. وثالثها: أنّه فعل القلب، واللّسان مع سائر الأركان، ونقل عن أصحاب الحديث، ومالك، والشّافعيّ، وأحمد، والأوزاعيّ، وعن المعتزلة، والخوارج، لكنّ المعتزلة على أنّ صاحب الكبيرة بين الإيمان، والكفر بمعنى أنّه لا يقال له مؤمن، ولا كافر، بل يقال له فاسق مخلّد في النّار، والخوارج على أنّه كافر، وأهل السّنّة على أنّه مؤمن فاسق داخل تحت المشيئة لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] قالوا: ولا تظهر المغايرة بين قول أصحاب الحديث، وبين سائر أهل السّنّة لأنّ امتثال الأوامر، واجتناب الزّواجر من كمال الإيمان اتّفاقا لا من ماهيّته فالنّزاع لفظيّ لا على حقيقته، وكذلك اختلافهم في نقصان الإيمان، وزيادته، وكذا اقتران الإيمان بالمشيئة، وكذا الاختلاف في أنّ الإيمان مخلوق، أو غير مخلوق، وكذا التّفضيل بين الملك، والبشر، ومحلّ بسط هذا المرام كتب الكلام.

الفصل الأوّل
2 - (عن عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه، قال: بينما نحن عند رسول اللّه ذات يوم، إذ طلع علينا رجل): أصله بين فأشبعت الفتحة فقيل بينا. وزيدت ما فقيل بينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى الجملة الاسميّة تارة، وإلى الفعليّة أخرى، ويكون العامل معنى المفاجأة في إذ، فمعنى الحديث وقت حضورنا في مجلس رسول اللّه! فاجأنا وقت طلوع ذلك الرّجل، فبينا ظرف لهذا المقدّر، وإذ مفعول به بمعنى الوقت كما قال صاحب الكشّاف في قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] أي: وقت ذكر الّذين من دونه فجاءوا وقت الاستبشار. فنحن: مبتدأ، وعند ظرف مكان، وذات يوم ظرف لقوله عند باعتبار أنّ فيه معنى الاستقرار، أي: بين أوقات نحن حاضرون عنده، فنحن مخبر عنه بجملة ظرفيّة، والمجموع صفة المضاف إليه المحذوف، وزيادة ذات لدفع توهّم التّجوّز بأن يراد باليوم مطلق الزّمان لا النّهار كما في قولك: رأيت ذات زيد، وقيل ذات مقحم، وقيل بمعنى السّاعة، وقيل بين يضاف إلى متعدّد لفظا كقولك: جلست بين القوم، أو معنى كقولك جئت بين العشاءين، وإذا قصد إضافته إلى جملة يزاد ألف، أو ما عوضا عن الأوقات الّتي تقتضيها بين، وقيل فائدة المزيدتين إنّما هي التّهيّؤ لدخول الجملتين، ويجوز دخول إذ في جوابه كما في الحديث الصّحيح، ويجوز تركه كما في الشّعر الفصيح:
وَبَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا
وجاء في طريق: بينما نحن عند رسول اللّه في آخر عمره، والحكمة في تأخير مجيئه إلى ما بعد إنزال جميع الأحكام تقرير أمور الدّين الّتي بلّغها متفرّقة في مجلس واحد لتغبط، وتضبط، وقيل مجيئه كان في السّنة العاشرة قبيل حجّة الوداع، وسبب الحديث ما في مسلم أنّه! قال: (سلوني) فهابوا أن يسألوه فجاءه جبريل، ووقع في رواية ابن مندة: بينا رسول اللّه يخطب أي: يعظ إذ جاء رجل، وفي رواية للبخاريّ كان -عليه الصّلاة والسّلام -يوما بارزا للنّاس، وفي أخرى لأبي داود كان -عليه الصّلاة والسّلام -يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل فطلبنا إلى رسول اللّه أن يجعل لنا مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه قال: فبنينا له دكّانا أي: دكّة من طين يجلس عليه، وكنّا نجلس بجنبه، واستنبط منه القرطبيّ أنّه يسنّ للعالم الجلوس بمحلّ مرتفع مختصّ به إذا احتاج إليه للتّعظيم، ونحوه، ثمّ الطّلوع بمعنى الظّهور من كمال النّور مستعار من طلعت الشّمس، وفيه إيماء إلى كمال عظمته، وعلوّ مرتبته، والتّنوين في رجل للتّعظيم، ويحتمل التّنكير؛ لأنّ الرّاوي حين روايته، وإن كان عارفا بأنّه جبريل لكنّه حكى الحال الماضية كما يعلم من قوله: لا يعرفه منّا أحد، وفيه دليل على أنّ الملك له أن يقتدر بقدرة اللّه تعالى على التّشكّل ممّا شاء.

قال اللّه تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] والحكمة في اختيار شكل البشر الاستئناس لأنّ الجنسيّة علّة الضّمّ، فالمعنى رجل في الصّورة إذ هو جبريل كما عبّر به في رواية، وما وقع في رواية النّسائيّ من أنّ جبريل نزل في صورة دحية الكلبيّ معلول بأنّه وهم من رواية لقول عمر الآتي. ولا يعرفه منّا أحد. نعم كان غالبا يتمثّل بصورة دحية لكمال جماله.
(شديد بياض الثّياب، شديد سواد الشّعر): بإضافة شديد إلى ما بعده إضافة لفظيّة مفيدة للتّخفيف فقط صفة رجل، واللّام في الموضعين عوض عن المضاف إليه العائد إلى الرّجل. أي: شديد بياض ثيابه شديد سواد شعره، وفي نسخة بالتّنوين في الصّفتين المشبّهتين، ورفع ما بعدهما على الفاعليّة، وفيه استحباب البياض، والنّظافة في الثّياب، وأنّ زمان طلب العلم أو ان الشّباب لقوّته على تحمّل أعبائه، وقدرته على تعلّم أدائه، وقدّم البياض على السّواد لأنّه خير الألوان، ومحيط بالأبدان، ولئلّا يفتتح بغتة بلون متوحّش، وجمع الثّياب دون الشّعر إشعارا بأنّ جميعها كذلك، وفي رواية ابن حبّان شديد سواد اللّحية، وبها يتبيّن محمل الشّعر المذكور في الحديث المشهور، والشّعر بفتحتين أفصح من سكون الثّاني، ويضمّ معه مراعاة للسّجع في قوله: (لا يرى عليه أثر السّفر): روي بصيغة المجهول الغائب، ورفع الأثر، وهو رواية الأكثر والأشهر، وروي بصيغة المتكلّم المعلوم، ونصب الأثر، والجملة حال من رجل، أو صفة له، والمراد بالآثار ظهور التّعب، والتّغيّر، والغبار، والسّفر مأخوذ من السّفر، وهو الكشف؛ لأنّه يكشف أحوال الرّجال، وأخلاقهم عند مباشرة الأعمال.

(ولا يعرفه): عطف على ما قبله (منّا) أي: من الحاضرين في المجلس قدّم للاهتمام على قوله: (أحد): وقال أبو الفضائل علىّ بن عبد اللّه بن أحمد المصريّ المشتهر بزين العرب في شرحه للمصابيح من الصّحابة، وإلّا فالرّسول قد عرفه، وقال السّيّد جمال الدّين: قد جاء صريحا في بعض الرّوايات أنّ النّبيّ لم يعرفه حتّى غاب جبريل كما أفاده الشّيخ ابن حجر العسقلانيّ في شرحه للبخاريّ، والمعنى تعجّبنا من كيفيّة إتيانه، وتردّدنا في أنّه من الملك، أو الجنّ إذ لو كان بشرا من المدينة لعرفناه، أو كان غريبا لكان عليه أثر السّفر، فإن قيل: كيف علم عمر أنّه لم يعرفه أحد منهم؟ أجيب: بأنّه يحتملها، ثمّ استند في ذلك إلى ظنّه، أو إلى صريح قول الحاضرين، والثّاني أولى فقد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا كذا قاله الشّيخ ابن حجر العسقلانيّ. (حتّى جلس): غاية لمحذوف دلّ عليه طلع أوّله لأنّه بمعنى أتى أي: أقبل، واستأذن. وفي مسند الإمام الأعظم عن حمّاد عن علقمة عن ابن مسعود قال: جاء جبريل إلى النّبيّ في صورة شابّ عليه ثياب بياض فقال: السّلام عليك يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه : (وعليك السّلام) فقال: يا رسول اللّه أدنو فقال: (ادن) فالتّقدير دنا حتّى جلس متوجّها أي: مائلا (إلى النّبيّ ): والجلوس، والقعود مترادفان، وما ذكره التّوربشتيّ، وغيره أنّ القعود استعماله مع القيام، والجلوس مع الاضطجاع محمول على أنّه الأصليّ، أو الغالب، وفي رواية: حتّى برك بين يدي النّبيّ كما يجلس أحدنا للصّلاة، وقول زين العرب أي: جلس إلى جانبه، أو معه لا يلائمه قوله: (فأسند ركبتيه إلى ركبتيه) أي: ركبتي رسول اللّه لأنّ الجلوس على الرّكبة أقرب إلى التّواضع، والأدب، وإيصال الرّكبة بالرّكبة أبلغ من الإصغاء، وأتمّ من حصول حضور القلب، وأكمل في الاستئناس، وألزم لمسارعة الجواب، ولأنّ الجلوس على هذه الهيئة يدلّ على شدّة حاجة السّائل، وإذا عرف المسئول حاجته، وحرصه اعتنى، وبادر إليه (ووضع كفّه) أي: كفّي الرّجل (على فخذيه): بفتح فكسر، وفي القاموس الفخذ ككتف ما بين السّاق، والورك مؤنّث كالفخذ، ويكسّر أي: فخذي الرّجل، وهو المناسب لهيئة المتعلّم بين يدي المعلّم، أو على فخذي النّبيّ كما في رواية النّسائيّ، وغيره، ثمّ وضع يديه على ركبتي النّبيّ على ما بيّنه الشّيخ ابن حجر العسقلانيّ، وهو الملائم للتّقرّب لديه، والإصغاء إليه، وقصر النّظر عليه (وقال: يا محمّد!): قيل: ناداه باسمه إذ الحرمة تختصّ بالأمّة في زمانه، أو مطلقا، وهو ملك معلّم، ويريده قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] إذ الخطاب للآدميّين فلا يشمل الملائكة إلّا بدليل، أو قصد به المعنى الوصفيّ دون المعنى العلميّ، ولم أر من ذكره، وأمّا ما ورد في الصّحاح من نداء بعض الصّحابة باسمه فذاك قبل التّحريم، وقيل آثره زيادة في التّعمية إذ كانوا يعتقدون أنّه لا يناديه به إلّا العربيّ الجلف، ويحتمل أن يكون هذا قبل تحريم ندائه باسمه، قيل: ولم يسلّم مبالغة في التّعمية، أو بيانا أنّه غير واجب، أو سلّم، ولم ينقله الرّاوي، وهو الصّحيح لما سبق من رواية الإمام، ومن حفظ حجّة على من لم يحفظ، ومن ذكره مقدّم على من سكت عنه؛ لأنّ معه زيادة علم. نعم في رواية قال: السّلام عليك يا محمّد، والجمع بأنّه جمع بين اللّفظين فقال: السّلام عليك يا محمّد السّلام عليك يا رسول اللّه، ووقع عند القرطبيّ أنّه قال: السّلام عليك يا محمّد، وأخذ منه أنّه يسنّ للدّاخل أن يعمّ بالسّلام، ثمّ يخصّ من شاء بالكلام، قال شيخ الإسلام في فتح الباري: والّذي وقفت عليه في الرّواية إنّما فيه الإفراد، وهو السّلام عليك يا محمّد. أقول: وعلى تقدير ثبوته الظّاهر من إيراد الجمع إرادة التّعظيم لا قصد التّعميم فكأنّ القرطبيّ جعله نظيرا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] في كون الخطاب خاصّا، والحكم عامّا (أخبرني) أي: أعلمني، وصيغة الأمر للاستدعاء لما تقرّر أنّ الرّسول أفضل من الملائكة العلويّة (عن الإسلام): وهو لغة الانقياد مطلقا، وشرعا الانقياد الظّاهر بشرط انقياد الباطن المعبّر عنه بالإيمان لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] واللّام فيه للحقيقة الشّرعيّة، ولذلك أجاب عنه بالأركان الخمسة الإسلاميّة، ثمّ اعلم أنّ السّؤال عن الإسلام، وجوابه مقدّم على الإيمان، وجوابه في صحيح مسلم، وكتاب الحميديّ، وجامع الأصول، ورياض الصّالحين، وشرح السّنّة بخلاف المصابيح، فإنّه قدّم فيه الإيمان، والتّصديق، وإن كان مقدّما لأنّه أساس قاعدة الإسلام، لكنّ المقام يقتضي تقدّم الإسلام ; لأنّه دليل على التّصديق، وما جاء جبريل عليه السّلام إلّا لتعليم الشّريعة، وهو -عليه الصّلاة والسّلام -كان يحكم بالظّاهر على مقتضى الحكم التّدريجيّة فيبدأ بما هو الأهمّ، ويترقّى من الأدنى إلى الأعلى فيكون الإسلام مقدّما على الإيمان، والإيمان على الإخلاص المعبّر عنه بالإحسان، وجاء في رواية للبخاريّ بتأخير الإسلام عن الإيمان، لكن عن أبي هريرة لا عن عمر، ففي إيراد الحديث هذا اللّفظ اعتراض فعليّ من صاحب المشكاة على البغويّ في المصابيح، وفي رواية بتوسّط الإحسان بينهما فقيل: إشارة إلى أنّ محلّه القلب فذكر في القلب، والأظهر أنّ وجه التّوسّط أنّ له تعلّقا بكلّ من الطّرفين، وقال جماعة من المحقّقين: إنّ هذا التّقديم، والتّأخير من الرّواة؛ لأنّ القضيّة واحدة فكان الواقع أمرا واحدا عبّر الرّواة عنه بأساليب مختلفة.

قال: (الإسلام): أعاده، ووضعه موضع ضميره إرادة لوضوحه (أن تشهد) أي: أيّها المخاطب خطابا عامّا، ولم يقل تعلم لأنّ الشّهادة أبلغ في الانكشاف من مطلق العلم، ومن ثمّ لم يكف أعلم عن أشهد في أداء الشّهادة، وأنّ مصدريّة، والتّقدير الإسلام شهادة (أن): وهي مخفّفة من المثقّله أي: أنّه، والضّمير للشّأن (لا إله): لا هي النّافية للجنس على سبيل التّنصيص على نفي كلّ فرد من أفراده (إلّا اللّه): قيل: خبر لا، والحقّ أنّه محذوف، والأحسن فيه لا إله معبود بحقّ في الوجود إلّا اللّه، ولكون الجلالة اسما للذّات المستجمع لكمال الصّفات، وعلما للمعبود بالحقّ، قيل: لو بدّل بالرّحمن لا يصحّ به التّوحيد المطلق، ثمّ قيل: التّوحيد هو الحكم بوحدانيّة الشّيء، والعلم بها، واصطلاحا إثبات ذات اللّه بوحدانيّته منعوتا بالتّنزّه عمّا يشابهه اعتقادا فقولا، وعملا فيقينا، وعرفانا فمشاهدة، وعيانا فثبوتا، ودواما. قال الغزاليّ: للتّوحيد لبّان، وقشران كاللّوز فالقشرة العليا القول باللّسان المجرّد، والثّانية الاعتقاد بالقلب جازما، واللّبّ أن ينكشف بنور اللّه سرّ التّوحيد بأن يرى الأشياء الكثيرة صادرة عن فاعل واحد، ويعرف سلسلة الأسباب مرتبطة بمسبّباتها، ولبّ اللّبّ أن لا يرى في الوجود إلّا واحدا، ويستغرق في الواحد الحقّ غير ملتفت إلى غيره. (وأنّ محمّدا رسول اللّه): إيماء إلى النّبوّة، وهما أصلان متلازمان في إقامة الدّين ضرورة توقّف الإسلام على الشّهادتين، وظاهر الحديث يؤيّد من قال الإقرار شرط لإجراء الأحكام عليه، وفي رواية البخاريّ أن تعبد اللّه أي: توحّده، ولا تشرك به شيئا أي: من الأشياء، أو الإشراك. قال المحقّقون: مجرّد التّوحيد هو الاحتجاب بالجمع عن التّفصيل، وهو محض الجبر المؤدّي إلى الإباحة، ومجرّد إسناد القول، والفعل إلى الرّسول ، وسائر الخلق احتجاب بالتّفصيل عن الجمع الّذى هو صرف القدرة المؤدّي إلى التّعطيل، أو الثّنويّة، والجمع بينهما هو الحقّ المحض. قال في العوارف: الجمع اتّصال لا يشاهد صاحبه إلّا الحقّ فمن شاهد غيره فما ثمّ جمع، والتّفرقة شهود لما شاهد بالمباينة فقوله: آمنّا باللّه جمع، وما أنزل إلينا تفرقة. وكذا قوله: إيّاك نعبد تفرقة، وإيّاك نستعين جمع، والأوّل ردّ على الجبريّة، والثّاني حطّ على القدريّة. وقال الجنيد: القرب بالوجد جمع، وغيبته في البشريّة تفرقة، وكلّ جمع بلا تفرقة زندقة، وكلّ تفرقة بلا جمع تعطيل وحسبنا اللّه، ونعم الوكيل. (وتقيم)، أي: وأن تقيم (الصّلاة) أي: المعهودة شرعا. وفي رواية لمسلم: المكتوبة تنبيها على أنّ النّافلة وإن كانت من الإسلام لكنّها ليست من أركانه. يعني بأن تؤدّيها، وتحفظ شروطها، وتعدل أركانها، وتداوم عليها، ولذا لم يقل، وتصلّي (وتؤتي الزّكاة) أي: وأن تعطي، وفيه إشارة إلى أنّه لا بدّ فيها من التّمليك، وهي مأخوذة من زكى. بمعنى طهر، ونما، وهو اسم للقدر المخرج من النّصاب ; لأنّه يطهّر المخرج، أو المخرج عنه، ويزيد البركة، وفي رواية للبخاريّ، ومسلم تقييدها بالمفروضة، والظّاهر أنّها للتّأكيد (وتصوم): بالنّصب (رمضان) أي: في شهره، وفيه جواز ذكره بلا كراهة من غير ذكر شهر، وهو المعتمد، وهو من رمض إذا احترق من الرّمضاء فأضيف إليه الشّهر، وسمّي به لارتماضهم من حرّ الجوع، أو من حرارة الزّمان الّذي وقع فيه، أو لأنّه يحترق به الذّنوب، وتمحى به العيوب، أو لأنّه يزول معه حرارة الشّهوات، والصّوم لغة الإمساك، وشرعا إمساك مخصوص بوصف مخصوص، (وتحجّ البيت) أي: الحرام ; فإنّ فيه للعهد، أو هو اسم جنس غلب على الكعبة علما، واللّام فيه جزء كما في النّجم، والحجّ لغة القصد، أو تكراره مطلقا، أو إلى معظّم، وشرعا قصد بيت اللّه في وقت معيّن بشرائط مخصوصة (إن استطعت إليه) أي: إلى البيت، أو إلى الحجّ أي: إن أمكن لك الوصول إليه بأن وجدت زادا، أو راحلة كما في حديث صحّحه غير واحد (سبيلا): تمييز عن نسبة الاستطاعة فأخّر عن الجار ليكون أوقع، وهي الطّريق الّذي فيه سهولة، وتستعمل في كلّ ما يتوصّل به إلى شيء، وتنكيره للعموم إذ النّكرة في الإثبات قد تفيد العموم كما ذكره الزّمخشريّ في قوله تعالى: (علمت نفس) لكنّه مجاز، وتقديم إليه عليه للاختصاص أي: سبيلا ما على أيّ وجه كان قريبا، أو بعيدا، ونحوهما، بشرط اختصاص انتهائه إليه لا إلى غيره، وقيل "سبيلا" مفعول. بمعنى موصّل، أو مبلّغ قال الشّافعيّ: إنّه بالمال، وأوجب الاستنابة على الزّمن الغنيّ، وقال مالك: إنّه بالبدن فيجب على من قدر على المشي، والكسب في الطّريق، وقال أبو حنيفة: إنّه مجموع الأمرين، ثمّ الاستطاعة هي القدرة من طاع لك إذا سهل يطلق على سلامة الأسباب، وصحّة الآلات، وهي قد تتقدّم على الفعل، وعلى عرض في الحيوان يفعل له الأفعال الاختياريّة، ولا يكون إلّا مع الفعل، وهي كما فسّرت استطاعة خاصّة بالمعنى الأوّل فلا يردّ ما قيل إنّ الاستطاعة الّتي بها يتمكّن المكلّف من فعل العبادة مشروطة في الكلّ فكيف خصّ الحجّ بها؟ قال الطّيبيّ، فإن قلت: كيف خصّ الحجّ بالاستطاعة دون سائر الأركان الإسلاميّة مع أنّ الاستطاعة الّتي يتمكّن المكلّفون من فعل الطّاعة مشروطة في الكلّ؟ أجيب: بأنّ المعنيّ بهذه الاستطاعة الزّاد، والرّاحلة، وكان طائفة لا يعدّونها منها، ويثقلون على الحاجّ فنهوا عن ذلك، أو علم اللّه تعالى أنّ ناسا في آخر الزّمان يفعلون ذلك فصرّح تسهيلا على العباد، ومع ذلك ترى كثيرا من النّاس لا يرفعون لهذا النّصّ الجليّ رأسا، ويلقون أنفسهم بأيديهم إلى التّهلكة. أقول: ولعلّ في هذا حكمة، وهي أن تكون حجّة على الأغنياء التّاركين للحجّ رأسا مع أنّ اللّه تعالى أعطاهم مالا، وأثاثا، وإيراد الأفعال المضارعيّة لإفادة الاستمرار التّجدّديّ لكلّ من الأركان الإسلاميّة، ففي التّوحيد المطلوب الاستمرار الدّائم مدّة الحياة، وفي الصّلاة دونه، ثمّ في الصّوم، والزّكاة دونها، وقدّم الصّوم لتعلّقه بجميع المكلّفين، وأخّر ما وجب في العمر مرّة. وفي فتح الباري فإن قيل: السّؤال عامّ؛ لأنّه سئل عن ماهيّة الإسلام. والجواب خاصّ بقوله: أن تعبد، وتشهد، وكذا قال في الإيمان: أن تؤمن، وفي الإحسان أن تعبد. فالجواب: أنّ ذلك لنكتة الفرق بين المصدر، و(أن) الفعل، لأنّ أن والفعل يدلّ على الاستقبال، والمصدر لا يدلّ على الزّمان على أنّ في رواية قال: شهادة أن لا إله إلّا اللّه.

وقيل: الأولى في الجواب أن يقال: القصد التّعليم هو إنّما يتعلّق بالأمور المستقبلة فلذلك عدل عن المصدر المناسب للسّؤال إلى ما يدلّ على الاستقبال، ويسنح بالبال، واللّه أعلم بحقيقة الحال أنّ العدول عن المصدر المفيد للعلم إلى المضارع المقتضي للعمل إيماء إلى أنّه لا يكفي مجرّد المعرفة من غير أن يخرج من القوّة إلى الفعل، وبنحو هذا العدول يعلم بلوغ بلاغته إلى أعلى الغايات، وأعلى النّهايات، ووقع في رواية حذف الحجّ، وفي أخرى حذف الصّوم، وفي أخرى الاقتصار على الشّهادتين، وفي أخرى على الصّلاة، والزّكاة، ولا تخالف لأنّ بعض الرّواة ضبط ما لم يضبطه غيره ذهولا، أو نسيانا كذا قيل، أو يقال لكلّ وجهة، فحذف الحجّ لأنّ وجوبه نادر، وفي العمر مرّة، وحذف الصّوم اكتفاء بذكر الصّلاة، فإنّ كلّا منهما عبادة بدنيّة، والاقتصار على الشّهادتين لأنّهما أساس الإسلام، وعلى الصّلاة، والزّكاة لأنّهما عمدة العبادة البدنيّة، والماليّة، والمقصود ظاهر الطّاعة، والانقياد، والعبادة لا استيفاء أفرادها، وإن كانت الخمسة هي معظم أركانها فالمراد بذكر بعضها مثلا هو التّنبيه على بقيّتها، ولذا ورد في رواية: وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتمّ الوضوء فيحمل الاختلاف اللّفظيّ على التّحديث المعنويّ، ثمّ اعلم أنّ لكلّ من تلك الأركان ظاهرا تبين أحكامه في الكتب الفقهيّة، وباطنا من حقائق، وأسرار ذكرها أرباب القلوب الأمناء لأسرار الغيوب، فنحن نذكر نبذة منها. أمّا التّوحيد، فهو ظهور فناء الخلق بتشعشع أنوار الحقّ، وله مراتب كما ذكره ذوو المناقب.

الأولى: التّوحيد النّظريّ إن علم بالاستدلال، أو التّقليديّ إن اعتقد بمجرّد تصديق المخبر الصّادق، وسلم القلب من الشّبهة، والحيرة، والرّيب، هو أن يعتقد أنّ اللّه متفرّد بوصف الألوهيّة متوحّد باستحقاق العبوديّة يحقن الدّماء، والأموال، ويتخلّص من الشّرك الجليّ في الأحوال.

الثّانية: التّوحيد العلميّ، وهو أن يصير العبد بخروجه من غشاوة صفاته، وخلاصه من سجن ظلمات ذاته، وانسلاخه عن لباس الاختيار حيران في أنوار عظمة الجبّار، ولهان تحت سبحات سطوات الأنوار، فيعرف أنّ الموجد المحقّق، والمؤثّر المطلق هو اللّه تعالى، وأنّ كلّ ذات فرع من نور ذاته، وكلّ صفة من علم، وقدرة، وإرادة، وسمع، وبصر عكس من أنوار صفاته، وأثر من آثار أفعاله، ومنشؤه نور المراقبة، وهو دون المرتبة الحاليّة، لكنّ مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقرّبون، وعند ذلك ينفي من الظّلمة الوجوديّة، ويرتفع بعض من الشّرك الخفيّ.

الثّالثة: التّوحيد الحالّيّ، وهو أن يحمل التّوحيد وصفا لازما لذات الموحّد بتلاشي ظلمات رسوم وجود الغير إلّا قليلا في غلبة إشراق نور التّوحيد، واستنار نور حاله في نور علم التّوحيد كاستتار نور الكواكب في نور الشّمس، فلمّا استنار الصّبح أدرج ضوء نور الكواكب، واستغراقه في مشاهدة جمال وجود الواحد بحيث لا يظهر عند شهوده إلّا ذات الواحد، ويرى التّوحيد صفة الواحد لا صفته بل لا يرى ذلك، قال الجنيد: التّوحيد معنى يضمحلّ فيه الرّسوم، ويندرج فيه العلوم، ويكون اللّه كما لم يزل.

الرّابعة: التّوحيد الإلهيّ، وهو أنّ اللّه تعالى كان في الأزل موصوفا بالوحدانيّة في الذّات، والأحديّة في الصّفات، كان ولم يكن معه شيء، والآن كما كان. كلّ شيء هالك إلّا وجهه، ولم يقل يهلك؛ لأنّ عزّة وحدانيّته لم تدع لغيره وجودا، وفي هذا المعنى أنشد العارف الأنصاريّ لنفسه شعرا:
مَا وَحَدَّ الْوَاحِدُ مِنْ وَاحِدٍ. إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوْحِيدُ مَنْ يَنْطِقُ عَنْ نَعْتِهِ. عَارِيَةٌ أَبْطَلَهَا الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُهُ إِيَّاهُ تَوْحِيدُهُ. وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُهُ لَاحِدُ
وأمّا الصّلاة فقد قيل: كان لرسول اللّه معراجان: معراج في عالم الحسّ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمّ إلى عالم الملكوت، ومحلّ الملأ الأعلى ومعراج في عالم الأرواح من الشّهادة إلى الغيب، ثمّ من الغيب إلى غيب الغيب، فلمّا أراد أن يرجع قال الرّبّ تبارك وتعالى: المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه، وإنّ تحفة أمّتك الصّلاة الجامعة بين المعراجين الجسمانيّ بالآداب، والأفعال، والرّوحانيّ بالأذكار، والأحوال. ولهذا ورد: الصّلاة معراج المؤمن، وأمّا الصّوم فصوم الشّريعة منافعه أكثر من أن تحصى، ولو لم يكن إلّا التّشبّه بالملأ الأعلى لكفى به فضلا، وصوم الطّريقة، فهو الإمساك عن الأكوان، والإفطار بمشاهدة الرّحمن.

صمت عن غيره فلمّا تجلّى كان لي شاغل عن الإفطار وأمّا الزّكاة فهي إشارة إلى تزكية أحوال الظّاهر والباطن بترك الأموال، وصرفها إلى أسباب الوصول إلى الأحوال، وتخلية القلب عن الأغيار، وتخلية الرّوح لظهور تجلّيات الأنوار، وأمّا الحجّ، فهو إشارة إلى وجوب زيارة بيت الجليل على الخليل إن استطاع إليه السّبيل بأن وجد شرائط السّلوك، وإمكانه، وآداب السّفر، وأركانه، وهي الإحرام بالخروج عن الرّسوم، والعادات، والتّجرّد عن المألوفات، والتّوجّه إلى اللّه تعالى بصفاء الطّويّات، والوقوف بعرفات المعرفة، والعكوف على عتبة جبل الرّحمة، والطّواف بالخروج عن الأطوار السّبعيّة بالأطواف السّبعيّة حول كعبة الرّبوبيّة، والسّعي بين صفا الصّفات، ومروة المروات، والحلق بمحو آثار العبوديّة بموسى الأنوار الإلهيّة، وقس عليه سائر المناسك، وللّه درّ القائل النّاسك:
يَا مَنْ إِلَى وَجْهِهِ حَجِّي وَمُعْتَمَرِي. إِنْ حَجَّ قَوْمٌ إِلَى تُرْبٍ، وَأَحْجَارِ
لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعْدٍ. سِرًّا بِسِرٍّ، وَإِضْمَارًا بِإِضْمَارٍ
(قال: صدقت): دفعا لتوهّم أنّ السّائل ما عدّه من الصّواب، وحملا للسّامعين على حفظ الجواب، (فعجبنا له) أي: للسّائل (يسأله، ويصدّقه): التّعجّب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشّيء، فوجه التّعجّب أنّ السّؤال يقتضي الجهل غالبا بالمسئول عنه، والتّصديق يقتضي علم السّائل به ; لأنّ صدقت إنّما يقال إذا عرف السّائل أنّ المسئول طابق ما عنده جملة، وتفصيلا، وهذا خلاف عادة السّائل، وممّا يزيد التّعجّب أنّ ما أجابه لا يعرف إلّا من جهته، وليس هذا الرّجل ممّن عرف بلقائه فضلا عن سماعه منه. وفي رواية: لمّا سمعنا قول الرّجل صدقت أنكرناه، وفي رواية أخرى: انظروا هو يسأله، ويصدّقه كأنّه أعلم منه، وفي أخرى ما رأينا رجلا مثل هذا كأنّه يعلّم رسول اللّه يقول له: صدقت، صدقت. قيل: هو من صنيع الشّيخ إذا امتحن المعيد عند حضور الطّلبة ليزيدوا في طمأنينة، وثقة في أنّه يعيد الدّرس، ويلقي المسألة من الشّيخ بلا زيادة، ونقصان، وفيه نسخة من قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3 - 5].

(قال: فأخبرني عن الإيمان): وفي رواية: ما الإيمان، واستشكلت بأنّ ما للسّؤال عن الماهيّة؟ فالجواب غير مطابق، وردّ بأنّه -عليه الصّلاة والسّلام -علم منه أنّه إنّما سأل عن متعلّقات الإيمان، لأنّها الأحقّ بالتّعليم، ولأنّ التّصديق في ضمنها، والأظهر أنّه لا فرق بين الرّوايتين، والمطابقة حاصلة في الجهتين لأنّ الإيمان في قال: (أن تؤمن): أريد به المعنى اللّغويّ، وقيل المعنى الشّرعيّ حتّى لا يكون تفسير الشّيء بنفسه، ولا يكون الدّور في تعريفه. وقول الطّيبيّ أي: تعترف، ولذا عدّي بالباء فيه أنّ الاعتراف من أجزاء الإسلام، فالتّحقيق أنّ الإيمان هنا بمعنى التّصديق، وهو يتعدّى بالباء، ففي القاموس آمن به إيمانا أي: صدّقه، نعم لو ضمن معنى الاعتراف لكان حسنا، ويكون التّقدير أن تصدّق معترفا، أو تعترف مصدّقا فيفيد كون الإقرار شطرا، أو شرطا. قيل: والحديث يدلّ على مغايرة العمل للإيمان فإنّه أجاب عن الإسلام، ثمّ عن الإيمان، وجعله تصديقا (باللّه) أي: بتوحيد ذاته، وتفريد صفاته، وبوجوب وجوده، وبثبوت كرمه، وجوده، وسائر صفات كماله من مقتضيات جلاله، وجماله. قيل: الصّفة إمّا حقيقة لا يتوقّف تصوّرها على شيء كالحياة، أو إضافيّة يتوقّف على ذلك لوجوب القدم، أو وجوديّة، وهي صفات الإكرام، أو سلبيّة، وهي صفات الجلال، وتنحصر الوجوديّة في ثمانية نظمها الشّاعر في قوله:
حَيَاةٌ وَعِلْمٌ قُدْرَةٌ وَإِرَادَةٌ. كَلَامٌ وَإِبْصَارٌ وَسَمْعٌ مَعَ الْبَقَا
قال ابن الصّلاح: هذا الحديث بيان أصل الإيمان، وهو التّصديق، والإسلام، وهو الانقياد، وحكم الإسلام يثبت بالشّهادتين، وإنّما أضاف إليهما الأعمال المذكورة؛ لأنّها أظهر شعائره، ثمّ قيل: الإيمان قد يطلق على الإسلام كما في حديث عبد قيس، واسم الإسلام يتناول أصل الإيمان، وهو التّصديق، والطّاعات فإنّ كلّ ذلك استسلام فعلم أنّهما يجتمعان، ويفترقان، وأنّ كلّ مؤمن مسلم من غير عكس، وهذا التّحقيق موافق لمذهب جماهير العلماء.

والمشهور أنّهما مترادفان في الشّرع نقله ابن عبد البرّ عن الأكثرين ; لأنّ انقياد الظّاهر لا ينفع دون انقياد الباطن، وكذا العكس، والحقّ أنّ الخلاف لفظيّ لأنّ مبنى الأوّل على الحكم الدّنيويّ، ومدار الثّاني على الأمر الأخرويّ، أو الأوّل بناؤه على اللّغة، والثّاني مداره على الشّريعة، وصنّف في المسألة إمامان كبيران، وأكثرا من الأدلّة على أنّهما متغايران، أو مترادفان، وتكافآ في ذلك، وقيل التّحقيق أنّهما مختلفان باعتبار المفهوم متّحدان في المصادق، واللّه أعلم.

ثمّ التّصديق إذعان النّفس، وقبولها بما يجب قبوله، وهو: تقليديّ، وتحقيقيّ. والتّحقيقيّ إمّا استدلاليّ، أو ذوقيّ، والذّوقيّ إمّا كشفيّ واقف على حدّ العلم، أو الغيب، أو غيبيّ غير واقف عليه، والغيبيّ إمّا مشاهدة، أو شهود، والأوّل هو الاعتقاد الجازم المطابق الممتنع الزّوال، والثّاني الاعتقاد الجازم الثّابت بالبرهان، والثّالث الممتنع الزّوال الثّابت بالوجدان، والثّلاثة مراتب الإيمان بالغيب، والأخيران علم اليقين، والرّابع هو المشاهدة الرّوحانيّة مع بقاء الاثنينيّة، ويسمّى عين اليقين، والخامس هو الشّهود الحقّانيّ عند تجلّي الوحدة الذّاتيّة، وزوال الاثنينيّة، ويسمّى حقّ اليقين، هذا وإنّ للإيمان وجودا غيبيّا، ووجودا ذهنيّا، ووجودا لفظيّا، أمّا الأوّل، فهو ما أشار إليه الشّيخ الكبير أبو عبد اللّه الشّيرازيّ في معتقده من أنّه نور يقذف في القلب من نور الذّات، ومعناه أنّ أصله نور يقذفه الحقّ من ملكوته إلى قلوب عباده فيباشر أسرارهم، وهو متّصل بالحضرة ثابت في قلوبهم، فإذا انكشف جمال الحقّ له ازداد ذلك النّور فيتقوّى إلى أن ينبسط، وينشرح الصّدر، ويطّلع العبد على حقائق الأشياء، ويتجلّى له الغيب، وغيب الغيب، ويظهر له صدق الأنبياء، وينبعث من قلمه داعية الاتّباع، فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأعمال، والأخلاق {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35] وذلك القذف، والكشف يتعلّق بمراد اللّه في أحايين، نسيم الصّفات لا يقدر على كسبه، نعم شرائطه مكتسبة، وأمّا الوجود الذّهنيّ فملاحظة ذلك النّور، ومطالعته بالتّصديق، وأمّا الوجود اللّفظيّ، فهو الشّهادتان، وكما أنّ إيمان العوامّ هو التّصديق بالجنان، والإقرار باللّسان، والعمل بالأركان، فإيمان الخواصّ عزوب النّفس من الدّنيا، وسلوكه طريق العقبى، وشهود القلب مع المولى، وإيمان خواصّ الخواصّ ملازمة الظّاهر والباطن في طاعة اللّه، وإنابة الخلق إلى الفناء في اللّه، وإخلاص السّرّ للبقاء باللّه ذوّقنا اللّه.

(وملائكته): جمع ملاك، وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة، وهي الرّسالة قدّمت اللّام على الهمزة، وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها إلى ما قبلها فصار ملك، ولمّا جمعت ردّت الهمزة، وقيل قلبت ألفا، وقدّمت اللّام، وجمع على فعائل كشمأل، وشمائل، ثمّ تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال، وألقيت حركتها إلى اللّام، والتّاء لتأنيث الجمع، أو مزيدة لتأكيد معناه أطلقت بالغلبة على الجواهر العلويّة النّورانيّة المبرّأة عن الكدورات الجسمانيّة، وهي وسائط بين اللّه وبين أنبيائه، وخاصّة أصفياءه، وقال بعضهم: هي أجسام لطيفة نورانيّة مقتدرة على تشكّلات مختلفة يجوز عليهم الصّعود، والنّزول، والتّسبيح لهم بمنزلة النّفس منّا، فمشقّة التّكليف منتفية، والمعنى نعتقد بوجودهم تفصيلا فيما علم اسمه منهم ضرورة كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، وإجمالا في غيرهم، وأنّهم عباد مكرمون يسبّحون اللّيل، والنّهار لا يفترون، ولا يعصون اللّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وأنّ منهم كراما كاتبين، وحملة العرش المقرّبين، وأنّ لهم أجنحة مثنى، وثلاث، ورباع، وأنّهم منزّهون عن وصف الأنوثة، والذّكورة، وأمّا كون الرّسل أفضل منهم، أو هم فلا يجب اعتقاد أحدهما فإنّ المسألة ظنّيّة. فإن قلت: ما الموجب لدخول الإيمان بها في مفهوم الإيمان الصّحيح مع أنّ المقصود بالذّات معرفة المبدأ، أو المعاد؟ فأجيب: بأنّ النّاس ينقسم إلى فطن يرى المعقول كالمحسوس، ويدرك الغائب كالمشاهد، وهم الأنبياء، وإلى من الغالب عليهم متابعة الحسّ، ومتابعة الوهم فقط، وهم أكثر الخلائق، فلا بدّ لهم من معلّم يدعوهم إلى الحقّ، ويذودهم عن الزّيغ المطلق، ويكشف لهم المغيّبات، ويحلّ عن عقولهم الشّبهات، وما هو إلّا النّبيّ المبعوث لهذا الأمر، وهو وإن كان مشتعل القريحة {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] يحتاج إلى نور يظهر له الغائب، وهو الوحي، والكتاب، ولذلك سمّي القرآن نورا، ولا بدّ له من حامل، وموصّل، وهو الملك المتوسّط، وإليه الإشارة بقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] فالمراد لا يصير مؤمنا إلّا إذا تعلّم من النّبيّ ما يحقّقه بإرشاد الكتاب الواصل إليه بتوسّط الملك أنّ له إلها واجب الوجود فائض الجود إلى غير ذلك ممّا يثبت بالشّرع، (وكتبه) أي: ونعتقد بوجود كتبه المنزّله على رسله تفصيلا فيما علم يقينا كالقرآن، والتّوراة، والزّبور، والإنجيل، وإجمالا فيما عداه، وأنّها منسوخة بالقرآن، وأنّه لا يجوز عليه نسخ، ولا تحريف إلى قيام السّاعة لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وأمّا كون كلام اللّه تعالى غير مخلوق ففيه اختلاف بين المعتزلة، وأهل السّنّة. قيل: الكتب المنزّله مائة وأربعة كتب، منها عشر صحائف نزلت على آدم وخمسون على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرة على إبراهيم، والأربعة السّابقة، وأفضلها القرآن، (ورسله) بأن تعرف أنّهم بلّغوا ما أنزل اللّه إليهم، وأنّهم معصومون، وتؤمن بوجودهم فيمن علم بنصّ، أو تواتر تفصيلا، وفي غيرهم إجمالا. وهذا الحديث يدلّ على ترادف الرّسول، والنّبيّ فإنّه كما يجب الإيمان بالرّسل يجب بالأنبياء. وعن الإمام أحمد عن أبي أمامه قال أبو ذرّ: قلت يا رسول اللّه كم وفاء عدّة الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرّسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّا غفيرا).

وهو ظاهر في التّغاير، وعليه الجمهور في الفرق بينهما بأنّ النّبيّ إنسان بعثه اللّه، ولو لم يؤمر بالتّبليغ، والرّسول من أمر به فكلّ رسول نبيّ، ولا عكس، فلعلّ وجه التّخصيص أنّ الرّسول هو المقصود بالذّات في الإيمان من حيث إنّه مبلّغ، وأنّ الإيمان بالأنبياء إنّما يعرف من جهة تبليغ الرّسل، فإنّه لا تبليغ للأنبياء، واللّه أعلم. وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مَنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] لأنّ المنفيّ هو التّفصيل، والثّابت هو الإجمال، أو النّفي مقيّد بالوحي الجليّ، والثّبوت متحقّق بالوحي الخفيّ. فإن قلت: ما فائدة ذكر ما بعد الرّسل، وما قبلهم مع أنّ الإيمان بهم مستلزم للإيمان بجميع ما جاءوا به يستلزم الإيمان بجميع ذلك؟ قلت: التّنبيه على التّرتيب الواقع؟ فإنّ اللّه تعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرّسول لمعرفة المبدأ، أو المعاد، وأنّ الخير، والشّرّ يجريان على العباد بمقتضى ما قدّره، وقضاه، وأراده، ولهذا قدّم الملائكة لا لكونهم أفضل من الرّسل؛ لأنّه مختلف، ولا من الكتب إذ لم يقل به أحد، وهذا التّرتيب ممّا يقتضيه حكمة عالم التّكليف، والوسائط، وإلّا فما قام لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، معلوم لنبيّنا إذ فيه إشارة إلى تمكينه في وقت كشوف المشاهدة، واستغراقه في بحر الوحدة حيث لا يبقى فيه أثر البشريّة، والكونين، وهذا محلّ استقامته في مشهد التّمكين الّذي أخبر اللّه عنه بقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] وليس هناك مقام جبريل، وجميع الكروبيّين، ولا مقام الصّفيّ، والخليل، ومن دونهم من الأنبياء، وكان أكثر أوقاته كذلك لكن يردّه اللّه إلى تأديب أمّته في بعض الأوقات ليجري عليهم أحكام التّلوين، ولا يذوب في أنوار كبرياء الأزل، (واليوم الآخر) أي: يوم القيامة؛ لأنّه آخر أيّام الدّنيا، وهو الأحسن ليشمل أحوال البرزخ فإنّه آخر يوم من أيّام الدّنيا، وأوّل يوم من أيّام الآخرة، ولأنّه مقدّمته، أو لأنّه أخّر عنه الحساب، والجزاء، وقيل هو الأبد الدّائم الّذي لا ينقطع لتأخّره عن الأوقات المحدودة، وذلك بأن تؤمن بوجوده، وبما فيه من البعث الجسمانيّ، والحساب، والجنّة، والنّار، وغير ذلك ممّا جاءت به النّصوص. وفي رواية البخاريّ: والبعث الآخر، فهو تأكيد كأمس الذّاهب، أو لإفادة تعدّده ; فإنّ الأوّل هو الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمّهات إلى الدّنيا، والثّاني البعث من بطون القبور إلى محلّ الحشر، والنّشور. وفي أخرى له: وبلقائه، وتؤمن بالبعث، فاللّقاء الانتقال إلى دار الجزاء، والبعث بعث الموتى من قبورهم، وما بعده من حساب، وميزان، وجنّة، ونار، وقد صرّح بهذه الأربعة في رواية. وقيل: اللّقاء الحساب، وقيل رؤية اللّه تعالى، وقيل: المراد بالبعث بعثة الأنبياء (وتؤمن)، أي: وأن تؤمن (بالقدر): بفتح الدّالّ، ويسكّن ما قدّره اللّه، وقضاه، وإعادة العامل إمّا لبعد العهد كقول الشّاعر:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانِيُّ أَنَّنِي. إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا
أو لشرف قدره، وتعاظم أمره وقع فيه الاهتمام لأنّه محار الأفهام، ومزالّ الأقدام، وقد علم -عليه الصّلاة والسّلام -أنّ الأمّة سيخوضون فيه، وبعضهم يتّقونه فاهتمّ بشأنه، ثمّ قرّره بالإبدال بقوله: (خيره، وشرّه) أي: نفعه، وضرّه، وزيد في رواية، وحلوه ومرّه، فإنّ البدل توضيح مع التّوكيد المفيد للتّعميم لتكرير العامل، وعندي أنّ إعادة العامل هنا أفادت أنّ هذا المؤمن به دون ما سبق، فإنّ من أنكر شيئا ممّا تقدّم كفر بخلاف من أنكر هذا فإنّه لا يخرجه عن دائرة الإسلام فيكون بمنزلة التّذييل، والتّكميل، وأمّا قول ابن الملك: خيره، وشرّه بدل بعض فغير ظاهر إلّا أن يقال باعتبار كلّ من المعطوف، والمعطوف عليه، والأظهر أنّه بدل الكلّ، والرّابطة بعد العطف، والمعنى تعتقد أنّ اللّه قدّر الخير، والشّرّ قبل خلق الخلائق، وأنّ جميع الكائنات متعلّق بقضاء اللّه مرتبط بقدره. قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] وهو مريد لها لقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] فالطّاعات يحبّها، ويرضاها بخلاف الكفر، والمعاصي. قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] والإرادة لا تستلزم الرّضا، ثمّ القضاء هو الحكم بنظام جميع الموجودات على ترتيب خاصّ في أمّ الكتاب أوّلا، ثمّ في اللّوح المحفوظ ثانيا على سبيل الإجمال، والقدر تعلّق الإرادة بالأشياء في أوقاتها، وهو تفصيل قضائه السّابق بإيجادها في الموادّ الجزئيّة المسمّاة بلوح المحو، والإثبات كما يسمّى الكتاب بلوح القضاء، واللّوح المحفوظ بلوح القدر في وجه هذا تحقيق كلام القاضي. ولمّا كان الإيمان بالقدر مستلزما للإيمان بالقضاء لم يتعرّض له، وذكر الرّاغب أنّ القدر هو التّقدير، والقضاء هو التّفصيل، فهو أخصّ، ومثّل هذا بأنّ القدر ما أعدّ للّبس، والقضاء بمنزلة اللّبس، ويؤيّده ما ذكره الحكيم التّرمذيّ. كان في البدء علم، ثمّ ذكر، ثمّ مشيئة، ثمّ تدبير، ثمّ مقادير، ثمّ إثبات في اللّوح، ثمّ إرادة، ثمّ قضاء، فإذا قال: كن فكان على الهيئة إلى علم فذكر، ثمّ شاء فدبّر، ثمّ قدّر، ثمّ أثبت، ثمّ قضى، فعلم منه أنّه ما من شيء من حيث استقام في العلم الأزليّ إلى أن استقام في اللّوح، ثمّ استبان إلّا يتعلّق به أمور من اللّه تعالى. قال بعض العارفين: إنّ القدر كتقدير النّقّاش الصّورة في ذهنه، والقضاء كرسمه تلك الصّورة للتّلميذ بالأسرب، ووضع التّلميذ الصّبغ عليها متّبعا لرسم الأستاذ هو الكسب، والاختيار، وهو في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ كذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء، والقدر، ولكنّه متردّد بينهما، هذا والقدريّة فسّروا القضاء بعلمه بنظام الموجودات، وأنكروا تأثير قدرة اللّه تعالى في أفعال المخلوقات، ومعتقد أهل السّنّة والجماعة أنّ أفعال العباد خيرها، وشرّها مخلوقة للّه تعالى مرادة له، ومع ذلك هي مكتسبة للعباد لأنّ لهم نوع اختيار في كسبها، وإن رجع ذلك في الحقيقة إلى إرادته وخلقه، ولا يسأل عمّا يفعل، وهم يسألون. وهذا أوسط المذاهب، وأعدلها، وأوفقها للنّصوص، فهو الحقّ، والصّواب خلافا للجبريّة القائلين بأنّ العباد مجبورون على أفعالهم، إذ يلزمهم أن لا تكليف، ومن اعترف منهم بهذا اللّازم، فهو كافر بخلاف من زعم أنّ سلب قدرة العبد من أصلها إنّما هو تعظيم لقدرة اللّه تعالى عن أن يشركه فيها أحد بوجه فإنّه مبتدع، وخلافا للقدريّة النّافين للقدر، وهم المعتزلة القائلون بأنّ العبد يخلق أفعال نفسه، وأنّ قدرة اللّه تعالى لا تؤثّر فيها، وأنّ إرادته لا تتعلّق بها لاستقلال قدرة العبد بالإيجاد، والتّأثير في أفعاله، إذ يلزمهم أنّ له تعالى شركاء في ملكه سبحانه، فمن اعتقد حقيقة الشّركة قصدا فقد كفر، أو تنزيه اللّه تعالى عن الفعل القبيح، فهو مبتدع. روي أنّه كتب الحسن البصرىّ إلى الحسن بن علىّ -رضي اللّه عنهم -يسأله عن القضاء، والقدر فكتب إليه الحسن بن علىّ: من لم يؤمن بقضاء اللّه، وقدره خيره، وشرّه فقد كفر، ومن حمل ذنبه على ربّه فقد كفر، وأنّ اللّه تعالى لا يطاع استكراها، ولا يعصى بغلبة لأنّه تعالى مالك لما ملّكهم وقادر على ما أقدرهم، فإن عملوا بالطّاعة لم يحل بينهم وبين ما عملوا، وإن عملوا بالمعصية فلو شاء لحال بينهم وبين ما عملوا فإن لم يفعل فليس هو الّذي جبرهم على ذلك، ولو جبر اللّه الخلق على الطّاعة لأسقط عنهم الثّواب، ولو جبرهم على المعصية لأسقط عنهم العقاب، ولو أهملهم كان ذلك عجزا في القدرة، ولكن له فيهم المشيئة الّتي غيّبها عنهم، فإن عملوا بالطّاعة فله المنّة عليهم، وإن عملوا بالمعصية فله الحجّة عليهم، والسّلام، فهذه رسالة يظهر عليها أنوار مشكاة النّبوّة والرّسالة.

ثمّ اعلم أنّ الإيمان بالقدر يستلزم العلم بتوحيد ذات الحقّ؛ لأنّ إتيان المقدورات وأحكامها على ما هو حقّها في أزمنة وأمكنة مخصوصة تدلّ على توحّد الحكم بتقديرها المقتضي لتوحّد المقدّر، والعلم بصفاته كسعة علمه ورحمته على العالمين، وآثار قدرته، وحكمته للمخلوقين، ونفوذ قضائه فيهم، والعلم بكمال صنعه وأفعاله، وأنّ الحوادث مستندة إلى الأسباب الإلهيّة فيعلم أنّ الحذر لا يقطع القدر، ولا ينازع أحدا في طلب شيء من اللّذّات، ولا يأنس بها إذا وجدها، ولا يغضب بسبب فوت شيء من المطالب، ولا بوقوع شيء من المهارب. قال تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] وورد في الحديث (ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك). فيكون مستسلما للحقّ فيما أراده من القضاء المطلق، وحسن الخلق مع سائر الخلق. قال بعض العارفين: إنّ اللّه قدّر وجود مخلوقاته لمظاهر تجلّي أسمائه وصفاته، فلكلّ منها مقدار مقدّر لمظاهر تجلّي ما علّمه اللّه له من الأسماء والصّفات ممّا يليق به، وهو مستعدّ له، وبذلك يسبّح له كما قاله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] ولكلّ ذرّة لسان ملكوتيّ ناطق بالتّسبيح، والتّحميد تنزيها لصانعه، وحمدا له على ما أولاه من مظهريّتها للصّفات الجماليّة والجلاليّة فالأشياء كلّها مقادير لأسماء اللّه تعالى وصفاته دون ذاته فإنّه لا يسعها إلّا قلب المؤمن لا يسعني أرضي، ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن، ولذا قيل: قلب المؤمن عرش اللّه. وقال أبو يزيد قدّس اللّه سرّه: لو وقع العالم ألف ألف مرّة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به.

[قال: (صدقت) قال: فأخبرني عن الإحسان]: قيل أي: المعهود ذهنا في الآيات القرآنيّة من قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] وَ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] والأظهر أنّ المراد به في الآيات ما اشتمل على الإيمان والإسلام، وغيرهما من الأعمال، والأخلاق والأحوال، والمراد في الحديث المعنى الأخصّ فقيل أراد به الإخلاص، فإنّه شرط في صحّة الإيمان والإسلام معا لأنّ من تلفّظ بالكلمة، وجاء بالعمل من غير نيّة الإخلاص لم يكن إيمانه صحيحا قاله في النّهاية. فكان المخلص في الطّاعة يوصل الفعل الحسّيّ إلى نفسه، والمرائي يبطل عمل نفسه، والإخلاص تصفية العمل من طلب عوض، وغرض عرض، ورؤية رياء، والأظهر أنّ المراد به إحسان العمل، وهو إحكامه وإتقانه، وهو يشمل الإخلاص، وما فوقه من مرتبة الحضور مع اللّه، ونفي الشّعور عمّا سواه، ويدلّ عليه الجواب. قال: (أن تعبد اللّه)، أي: توحّده، وتطيعه في أوامره، وزواجره.

وفي رواية: أن تخشى اللّه، ومآلهما واحد؛ لأنّ العبادة أثر الخشية، وهي منتجة للعبادة، وهي الطّاعة مع الخضوع والمذلّة. قال الرّاغب: العبادة فعل اختياريّ مناف للشّهوات البدنيّة تصدر عن نيّة يراد بها التّقرّب إلى اللّه تعالى طاعة للشّريعة. وقال بعض المحقّقين: وهي الغاية القصوى من إبداع الخلق، وإرسال الرّسل. وكلّما ازداد العبد معرفة ازداد عبوديّة، ولذا خصّ الأنبياء، وأولو العزم بخصائص في العبادة، ولا ينفكّ العبد عنها ما دام حيّا بل في البرزخ عليه عبوديّة أخرى لمّا سأله الملكان عن ربّه، ودينه، ونبيّه، وفي القيامة يوم يكشف عن ساق، ويدعون إلى السّجود، وإذا دخل الجنّة كانت عبوديّته سبحانك اللّهمّ مقرونا بأنفاسه، وفي كلام الصّوفيّة: أنّ العبادة حفظ الحدود والوفاء بالعهود، وقطع العلائق والشّركاء عن شرك، والفناء عن مشاهدتك في مشاهدة الحقّ، وله ثلاث مراتب لأنّه إمّا أن يعبده رهبة من العقاب ورغبة في الثّواب، وهو المسمّى بالعبادة، وهذه لمن له علم اليقين. أو يعبده تشوّقا لعبادته وقبول تكاليفه، وتسمّى بالعبوديّة، وهذه لمن له عين اليقين، أو يعبده لكونه إلها وكونه عبدا، والإلهيّة توجب العبوديّة، وتسمّى بالعبودة، وهذه لمن له حقّ اليقين، والشّرك رؤية ضرّ، أو نفع ممّا سواه، وإثبات وجود غير اللّه ذاتا، أو صفة، أو فعلا (كأنّك تراه): مفعول مطلق أي: عبادة شبيهة بعبادتك حين تراه، أو حال من الفاعل أي: حال كونك مشبّها بمن ينظر إلى اللّه خوفا منه وحياء، وخضوعا، وخشوعا، وأدبا، وصفاء، ووفاء، وهذا من جوامع الكلم، فإنّ العبد إن قام بين يدي مولاه لم يترك شيئا ممّا قدر عليه من إحسان العمل، ولا يلتفت إلى ما سواه، وهذا المعنى موجود في عبادة العبد مع عدم رؤيته، فينبغي أن يعمل بمقتضاه إذ لا يخفى أنّ من يرى من يعمل له العمل يعمل له أحسن ما يمكن عمله، ولا شكّ أنّ ذلك التّحسين لرؤية المعمول له العامل حتّى لو كان العامل يعلم أنّ المعمول له ينظر إليه من حيث لا يراه يجتهد في إحسانه العمل أيضا، ولذا قال: (فإن لم تكن تراه) أي: تعامله معاملة من تراه (فإنّه يراك) أي: فعامل معاملة من يراك، أو فأحسن في عملك فإنّه يراك. وفي رواية: فإن لم تره أي: بأن غفلت عن تلك المشاهدة المحصلة لغاية الكمال فلا تغفل عمّا يجعل لك أصل الكمال، فإنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه. بل استمرّ على إحسان العبادة مهما أمكن فإنّه يراك أي: دائما، فاستحضر ذلك لتستحيي منه حتّى لا تغفل عن مراقبته، ولا تقصّر في إحسان طاعته ; وحاصل الكلام فإن لم تكن تراه مثل الرّؤية المعنويّة فلا تغفل فإنّه يراك، فالفاء دليل الجواب، وتعليل الجزاء؛ لأنّ ما بعدها لا يصلح للجواب، لأنّ رؤية اللّه للعبد حاصلة. سواء رآه العبد أم لا. بل الجواب محذوف استغناء عنه بالمذكور لأنّه لازمه. وقيل: التّقدير فكن بحيث إنّه يراك، وهو موهم. قال السّيّد جمال الدّين: وليس معناه فإن لم تكن تعبد اللّه كأنّك تراه فاعبده كأنّه يراك كما ظنّ فإنّه خطأ بيّن.

وأراد به الرّدّ على الطّيبيّ، وبيانه أنّ رؤية اللّه تعالى لنا متحقّقة دائما حالة العبادة، وغيرها، فالتّعبير بكأنّه يراك خطأ، والصّواب فإنّه يراك، ووهم بعضهم أيضا فقال بعد قوله: كأنّك تراه أي: كأنّك تراه ويراك فحذف الثّاني لدلالة الأوّل عليه، وهو غلط قبيح لما تقدّم، فالصّواب أن يقال: وهو يراك ; وحاصل جميع الأقوال الحثّ على الإخلاص في الأعمال، ومراقبة العبد ربّه في جميع الأحوال. قال بعض العارفين: الأوّل إشارة إلى مقام المكاشفة، ومعناه إخلاص العبوديّة، ورؤية الغير بنعت إدراك القلب عيان جلال ذات الحقّ، وفنائه عن الرّسوم فيه. والثّاني إلى مقام المراقبة في الإجلال، وحصول الحياء من العلم باطّلاع ذي الجلال. قيل: المعنى فإن لم تكن بأن تكون فانيا تراه باقيا فإنّه يراك في كلّ حال من غير نقصان وزوال، وما قيل من أنّه لا يساعده الرّسم بالألف فمدفوع بحمله على لغة، أو على إشباع حركة، أو على حذف مبتدأ، وهو أنت، وجاز حذف الفاء من الجملة الاسميّة الواقعة موقع الجزاء، والمعنى أن تعبد اللّه في حال شعورك بوجودك لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] أي: الموت بإجماع المفسّرين، فإذا فنيت، ومتّ موتا حقيقيّا تراه رؤية حقيقيّة، وترتفع العبادات التّكليفيّة والتّكلّفيّة، وإذا متّ موتا مجازيّا، ودخلت في حال الفناء، وبقيت في مقام البقاء تراه رؤية مشاهدة غيبيّة تسقط عنك ثقل العبادات البدنيّة، أو نفس الأعمال الظّاهريّة عند غلبات الجذبات الباطنيّة. وقوله: فإنّه يراك متعلّق بالكلام السّابق، وإن كان له تعلّق ما أيضا باللّاحق، وإنّما أطنبت في المقام لتخطئة بعض الشّرّاح في ذلك الكلام، ولا ينافيه ما ورد في بعض الرّوايات، فإنّك إن لا تراه فإنّه يراك، وفي بعضها فإن لم تره فإنّه يراك فإنّ القائل بما تقدّم ما ادّعى المراد من الحديث المؤدّى بالعبارة، بل ذكر معنى يؤخذ من فحوى الكلام بطريق الإشارة. قيل: وفي قوله كأنّك تراه دليل لما هو الحقّ من أنّ رؤية اللّه في الدّنيا لا تقع لحديث مسلم: (واعلموا أنّكم لن تروا ربّكم حتّى تموتوا) قال الإمام مالك: لأنّ البصر في الدّنيا خلق للفناء فلم يقدر على رؤية الباقي بخلافه في الآخرة فإنّه لمّا خلق للبقاء الأبديّ قوي وقدر على نظر الباقي سبحانه، فرؤيته ليلة الإسراء بعين رأسه على القول به إمّا على أنّه مستثنى، وإمّا لكونه في الملكوت الأعلى الّذي لا يصدق عليه حال الدّنيا، ونزاع المعتزلة معروف في هذه المسألة، هذا وقد جاء في كثير من الرّوايات أنّ جبريل هنا أيضا قال: صدقت، ولعلّ بعض الرّواة لم يذكره نسيانا، أو اختصارا، أو اعتمادا على المذكور، وفي بعض روايات صحيح مسلم وشرح السّنّة مسطور، وقيل: إنّما لم يقل هاهنا صدقت لأنّ الإحسان هو الإخلاص، وهو سرّ من أسرار اللّه تعالى لا يطّلع عليه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، كما جاء في الحديث المسلسل الرّبّانيّ:) الإخلاص سرّ من أسراري أودعته قلب من أحببت من عبادي(.

وما ذكر أوّلا هو الأولى (قال: فأخبرني عن السّاعة) أي: عن وقت قيامها لما في رواية: متى السّاعة، لا وجودها؛ لأنّه مقطوع به، وقيل: لأنّه علم من قوله السّابق، واليوم الآخر، وهي جزء من أجزاء الزّمان عبّر بها عنها، وإن طال زمنها اعتبارا بأوّل زمانها، فإنّها تقع بغتة، أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، أو تفاؤلا كالمفازة للمهلكة، أو لأنّها عند اللّه كساعة عند الخلق كذا في الكشّاف. والسّاعة لغة مقدار غير معيّن من الزّمان، وعرفا جزء من أربعة وعشرين جزءا من أوقات اللّيل والنّهار. قيل: والسّاعة كما تطلق على القيامة، وهي السّاعة الكبرى تطلق على موت أهل القرن الواحد، وهي السّاعة الوسطى كما في قوله -عليه الصّلاة والسّلام -حين سألوه عن السّاعة فأشار إلى أصغرهم، (إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتّى تقوم عليكم ساعتكم) إذ المراد انقضاء عصرهم، ولذا أضاف إليهم وعلى الموت، وهي السّاعة الصّغرى، وورد: (من مات فقد قامت قيامته). قال: (ما المسئول عنها)، أي: عن وقتها. قيل، حقّ الظّاهر أن يقول: ما المسئول عنه ليرجع الضّمير إلى اللّام. أجيب: بأنّه كما يقال سألت عن زيد المسألة يقال سألته عنها، وهو الاستعمال الأكثر فالضّمير المرفوع راجع إلى اللّام، والمجرور إلى السّاعة، وما نافية أي: ليس الّذي سئل عنها. (بأعلم من السّائل): نفى أن يكون صالحا لأن يسأل عنه -في أمر السّاعة -لأنّها من مفاتيح الغيب لا يعلمها إلّا هو، وقد قال تعالى: {أكاد أخفيها}. قيل أي: عن ذاتي مبالغة على سبيل الكناية لما عرف أنّ المسئول عنه يجب في الجملة أن يكون أعلم من السّائل، فلا يقال لا يلزم من نفي الأعلميّة نفي أصل العلم عنها مع أنّهما متساويان في انتفاء العلم بذلك، ومساق الكلام يقتضي أن يقول: لست أعلم بعلم السّاعة منك لكنّه عدل ليفيد العموم ; لأنّ المعنى كلّ سائل ومسئول سيّان في ذلك، وفي رواية فنكّس فلم يجبه، ثمّ أعاد فلم يجبه شيئا، ثمّ رفع رأسه، وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السّائل، والباء مزيدة لتأكيد النّفي. قيل: وما أفهمه من أنّهما مستويان في العلم به غير المراد فإنّهما مستويان في نفي العلم به، أو في العلم بأنّ اللّه استأثر به، فتعيّن أنّ المراد استواؤهما في القدر الّذي يعلمانه منه، وهو نفس وجودها، وهذا وقع بين عيسى وجبريل أيضا إلّا أنّ عيسى كان سائلا وجبريل مسئولا فانتفض بأجنحته فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السّائل. رواه الحميديّ عن سفيان عن مالك بن مغول عن إسماعيل بن رجاء عن الشّعبيّ.

فإن قلت: فلم سأل جبريل عن السّاعة مع علمه بأنّه لا يعلمها إلّا هو، وما التّوفيق بين الآية، وبين ما اشتهر عن العرفاء من الأخبار الغيبيّة كما قال الشّيخ الكبير أبو عبد اللّه في معتقده، ونعتقد أنّ العبد ينقل في الأحوال حتّى يصير إلى نعت الرّوحانيّة فيعلم الغيب، وتطوى له الأرض، ويمشي على الماء، ويغيب عن الأبصار ; فالجواب: أمّا عن الأوّل فلتنبيههم بذلك على أنّه ليس له الجواب عمّا لا علم له به، ولا الاستنكاف من قول لا أدري الّذي هو نصف العلم كما نبّههم ممّا له الجواب عنه ممّا قد سلف بحسن السّؤال الّذي هو نصف العلم فتمّ العلم بذلك، وأمّا عن الثّاني فلأنّ للغيب مبادئ ولواحق، فمبادئه لا يطّلع عليه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، وأمّا اللّواحق، فهو ما أظهره على بعض أحبّائه لوحة علمه، وخرج ذلك عن الغيب المطلق، وصار غيبا إضافيّا، وذلك إذ تنوّر الرّوح القدسيّة، وازداد نوريّتها، وإشراقها بالإعراض عن ظلمة عالم الحسّ، وتحلية مرآة القلب عن صدأ الطّبيعة، والمواظبة على العلم والعمل، وفيضان الأنوار الإلهيّة حتّى يقوى النّور، وينبسط في فضاء قلبه فتنعكس فيه النّقوش المرتسمة في اللّوح المحفوظ، ويطّلع على المغيّبات، ويتصرّف في أجسام العالم السّفليّ، بل يتجلّى حينئذ الفيّاض الأقدس بمعرفته الّتي هي أشرف العطايا فكيف بغيرها؟ (قال: فأخبرني عن أماراتها): بفتح الهمزة جمع أمارة أي: علامة، وفي رواية: عن أشراطها، وهو جمع شرط بالفتح بمعنى العلامة، والمراد شيء من علاماتها الدّالّة على قربها، ولذا قيل أي: مقدّماتها، وقيل صغار أمورها. وفي رواية سأخبرك، وفي أخرى، وسأحدّثك عن أشراطها، وجمع بأنّه ابتدأه بقوله، وسأخبرك، فقال السّائل: فأخبرني، ويدلّ عليه ما في رواية: ولكن إن شئت نبّأتك عن أشراطها. قال: أجل. وفي رواية: فحدّثني قال: (أن تلد الأمة ربّتها) أي: من جملة علاماتها أو إحدى أماراتها ولادة الأمة مالكها ومولاها، وقيل التّقدير علاماتها ولادة الأمة، ورؤية الحفاة فاحتاج إلى أن يقول أخبر عن الجمع باثنين؛ لأنّهما أقلّه كما عليه جمع، وتأنيثها في هذه الرّواية وإن ذكّر في روايات أخر باعتبار التّسمية، ليشمل الذّكور والإناث، أو فرارا من شركة لفظ ربّ العباد، وإن جوّز إطلاقه على غيره تعالى بالإضافة دون التّعريف؛ لأنّه من ألفاظ الجاهليّة، أو أراد البنت فيعرف الابن بالأولى، والإضافة إمّا لأجل أنّه سبب عتقها، أو لأنّه ولد ربّها، أو مولاها بعد الأب، وفسّر هذا القول كثير من النّاس بأنّ السّبي يكثر بعد اتّساع رقعة الإسلام فيستردّ النّاس إماءهم، فيكون الولد كالسّيّد لأمّه لأنّ ملكها راجع إليه في التّقدير، وذلك إشارة إلى قوّة الدّين، واستيلاء المسلمين، وهي من الأمارات؛ لأنّ بلوغ الغاية منذر بالتّراجع والانحطاط المؤذن بقيام السّاعة، أو إلى أنّ الأعزّة تصير أذلّة لأنّ الأمّ مربّية للولد مدبّرة أمره فإذا صار الولد ربّها سيّما إذا كان بنتا ينقلب الأمر كما أنّ القرينة الثّانية على عكس ذلك، وهي أنّ الأذلّة ينقلبون أعزّة ملوك الأرض فيتلاءم المعطوفان، وهذا إخبار بتغيّر الزّمان، وانقلاب أحوال النّاس بحيث لا يشاهد قبله، ويؤيّده ما ورد من حديث أنّه (إذا ضيّعت الأمانة، ووسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة). وقيل: سمّي ولدها سيّدها؛ لأنّ له ولاءها بإرثه له عن أبيه إذا مات، أو أنّه كسيّدها لصيرورة مال أبيه إليه غالبا فتصير أمّه كأنّها أمته، وقيل: معناه أنّ الإماء تلدن الملوك فتكون أمّه من جملة رعيّته، وأيّد بأنّ الرّؤساء في الصّدر الأوّل كانوا يستنكفون غالبا من وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثمّ انعكس الأمر سيّما من في أثناء دولة بني العبّاس، ويقرب منه القول بأنّ السّبي إذا كثر قد يسبى الولد صغيرا، ثمّ يعتق، ويصير رئيسا بل ملكا، ثمّ يسبي أمّه فيشتريها عالما أو جاهلا بها ثمّ يستخدمها، وقد يطؤها أو يعتقها ويتزوّجها، وقيل معناه فساد الأحوال بكثرة بيع أمّهات الأولاد فتردّد في أيدي المشترين حتّى يشتريها ابنها أو يطأها، وهو لا يعلم، ويؤيّده رواية بعلها، وإن فسّر بسيّدها، وقيل معناه الإشارة إلى كثرة عقوق الأولاد فيعامل الولد أمّه معاملة السّيّد أمته من الخدمة وغيرها، وخصّ بولد الأمة لأنّ العقوق فيه أغلب، وعبّر في رواية البخاريّ بإذا بدل أن المفتوحة إشارة إلى تحقّق الوقوع، ولذلك قالوا يقال: إذا قامت القيامة، ولا يقال: إن بالكسر لأنّه كفر لإشعاره بالشّكّ. قال ابن حجر: وفي جزمهم بأنّ ذلك كفر نظر، ويتعيّن حمله على من عرف هذا المعنى واعتقده، وإلّا فكثيرا ما يستعمل إن موضع إذ، أو بالعكس لأغراض بيّنت في علم المعاني (وأن ترى): خطاب عامّ ليدلّ على بلوغ الخطب في العلم مبلغا لا يختصّ به رؤية راء (الحفاة): بضمّ الحاء جمع الحافي، وهو من لا نعل له، (العراة): جمع العاري، وهو صادق على من يكون بعض بدنه مكشوفا ممّا يحسن وينبغي أن يكون ملبوسا (العالة): جمع عائل، وهو الفقير من عال يعيل إذا افتقر، أو من عال يعول إذا افتقر وكثر عياله، (رعاء الشّاء): بكسر الرّاء، والمدّ جمع راع كتاجر وتجار، والشّاء جمع شاة، والأظهر أنّه اسم جنس، وفي رواية: الإبل البهم بضمّ الباء أي: السّود، وهو بجرّ الميم ورفعها، وصفا للرّعاة، جمع بهيم، فيكون كناية عن حالهم، وأنّه لا يعود لهم أصل من أبهم الأمر، إذا لم يعرف حقيقته. وقال القرطبيّ: الأولى حمله على سواد اللّون لأنّ الأدمة غالب ألوان العرب، أو للإبل جمع بهماء إذ السّود شرّها عندهم، وخيرها عندهم الحمر، ومن ثمّ ورد: خير من حمر النّعم، وفي رواية البهم بفتح الباء، ولا وجه له مع ذكر الإبل بل مع حذفه الّذي هو رواية مسلم إذ هو جمع بهمة وهي صغار الضّأن والمعز، ورجّحت هذه على تلك؛ لأنّ رعاء الغنم أضعف أهل البادية بخلاف رعاء الإبل فهم أهل فخر وخيلاء. (يتطاولون في البنيان) أي: يتفاضلون في ارتفاعه وكثرته ويتفاخرون في حسنه وزينته، وهو مفعول ثان إن جعلت الرّؤية فعل البصيرة، أو حال إن جعلتها فعل الباصرة، ومعناه أنّ أهل البادية وأشباههم من أهل الفاقة تبسط لهم الدّنيا ملكا، أو ملكا فيتوطّنون البلاد، ويبنون القصور المرتفعة، ويتباهون فيها، فهو إشارة إلى تغلّب الأراذل، وتذلّل الأشراف، وتولّي الرّئاسة من لا يستحقّها، وتعاطي السّياسة من لا يستحسنها، كما أنّ قوله: أن تلد الأمة ربّتها إشارة إلى عكس ذلك، وقيل: كلاهما إشارة إلى اتّساع دين الإسلام فيتناسب المتعاطفان في الكلام، ولعلّ تخصيصهما لجلالة خطبهما، ونباهة شأنهما، وقرب وقوعهما، ويحتمل أن تكون الأولى إيماء إلى كثرة الظّلم والفسق والجهل وبلوغها مبلغ العليا، والثّانية إلى غلبة محبّة الدّنيا، ونسيان منازل العقبى، ويقال: تطاول الرّجل إذا تكبّر فلا يرد ما ذكره ابن حجر من قوله: التّفاعل فيه بين أفراد العراة الموصوفين بما ذكر لا بينهم وبين غيرهم ممّا كان عزيزا فذلّ خلافا لمن وهم فيه، وقال: المعنى أنّ أهل البادية العارين عن القيام بالدّيانة يسكنون البلاد، ويتّخذون القصور الرّفيعة، ويتكبّرون على العبّاد والزّهّاد، وحاصل الكلام أنّ انقلاب الدّنيا من النّظام يؤذن بأن لا يناسب فيها المقام فلا عيش إلّا عيش الآخرة عند العقلاء الكرام، كما أنشدت الملكة حرقة بنت النّعمان لمّا سبيت، وأحضرت عند سعد بن أبي وقّاص:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا. إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا. تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ
فهنيئا لمن جعل الدّنيا كساعة، واشتغل فيها بالطّاعة قياما بأمر الحبيب، فإنّ كلّ ما هو آت قريب. قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 1-2] (قال) أي: عمر (ثمّ انطلق) أي: السّائل (فلبثت) أي: أنا. وفي رواية فلبث أي: هو (مليّا): بفتح الميم، وتشديد الياء من الملاوة إذ المهموز بمعنى الغنيّ أي: زمانا، أو مكثا طويلا، وبيّنته رواية أبي داود، والنّسائيّ، والتّرمذيّ قال عمر: فلبثت ثلاثا، وفي رواية للتّرمذيّ فلقيني النّبيّ بعد ثلاث، وفي أخرى فلبثت ليالي فلقيني النّبيّ بعد ثلاث، وفي أخرى لابن حبّان بعد ثالثة، وفي أخرى لابن منده بعد ثلاثة أيّام، وفي ورود هذه الرّوايات ردّ على من وهم أنّ رواية ثلاثا مصحّفة من رواية مليّا، والمعنى أنّي لم أستخبر منه -عليه الصّلاة والسّلام -مهابة، وفي شرح مسلم، وهذا مخالف لرواية أبي هريرة من أنّه -عليه الصّلاة والسّلام -ذكره في المجلس اللّهمّ إلّا أن يقال إنّ عمر لم يحضر في الحال بل قام فأخبر الصّحابة، ثمّ أخبر عمر بعد ثلاثة أيّام (ثمّ قال لي: يا عمر! أتدري) أي: أتعلم، وفي العدول نكتة لا تخفى (من السّائل؟) أي: ما يقال في جواب هذا بشر السّؤال (قلت: اللّه ورسوله أعلم): لأنّ الأمارات السّابقة والتّعجّب أوقعهم في التّردّد أهو بشر أم ملك، وهذا القدر يكفي في الشّركة على أنّ اسم التّفضيل كثيرا يراد به أصل الفعل من غير شركة. قال: (فإنّه جبريل) أي: إذا فوّضتم العلم إلى اللّه، ورسوله فإنّه جبريل على تأويل الأخبار أي: تفويضكم ذلك سبب للإخبار به، وقرينة المحذوف قوله: اللّه ورسوله أعلم فالفاء فصيحة ; لأنّها تفصح عن شرط محذوف، وأكّد الكلام لأنّ السّائل طالب متردّد، وفي رواية ردّوه فأخذوا ليردّوه فما رأوا شيئا. قال القاضي: وجبريل ملك متوسّط بين اللّه ورسله، ومن خواصّ الملك أن يتمثّل للبشر فيراه جسما.

قيل: والسّرّ في التّوسّط أنّ المكالمة تقتضي مناسبة بين المتخاطبين فاقتضت الحكمة توسّط جبريل ليتلقّف الوحي بوجهه الّذي في عالم القدرة من اللّه سبحانه تلقّفا روحانيّا، أو من اللّوح، ويلقيه بوجهه الّذي في عالم الحكمة إلى النّبيّ فربّما ينزل الملك إلى صورة البشر، وربّما يرتقي النّبيّ وقد يرتقي إلى المرتبة الملكيّة، ويتعرّى عن الكسوة البشريّة فيرد الوحي على القلب في لبسة الجلال، وأبّهة الكبرياء والكمال، ويأخذ بمجامعه فإذا سرّي عنه وجده المنزل ملقى في الرّوع كما في المسموع، وهذا معنى قوله أحيانا: (يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه علىّ فيفصم عنّي، وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول)، ثمّ جبريل بكسر الجيم وفتحها مع كسر الرّاء بعدها ياء، وبفتحها وهمزة مكسورة مع ياء وتركها، أربع لغات متواترات، والأوّل أشهر وأكثر. (أتاكم): استئناف بيان، أو خبر لجبريل على أنّه ضمير الشّأن (يعلّمكم دينكم): جملة حاليّة من الضّمير المرفوع في أتاكم أي: عازما تعليمكم، فهو حال مقدّرة؛ لأنّه لم يكن وقت الإتيان معلّما، أو مفعول له بتقدير اللّام كما في رواية، والمراد تثبيتهم على علمهم، وتقديره بطريق السّؤال والجواب ليتمكّن غاية التّمكّن في نفوسهم؛ لأنّ المحصول بعد الطّلب أعزّ من المنساق بلا تعب، وإسناد التّعليم إليه مجاز؛ لأنّه السّبب، وأضاف الدّين إليهم؛ لأنّهم المختصّون بالدّين القيّم دون سائر النّاس، أو الخطاب مخصوص بالصّحابة خصوصا، أو عموما، فإنّ سائر النّاس يأخذون دينهم منهم رضي اللّه عنهم، وفيه إيماء إلى أنّ الإيمان والإسلام والإحسان يسمّى دينا فقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] المراد به الكامل، وكذا قوله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وفي رواية: أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا، وفي أخرى: (والّذي بعث محمّدا بالحقّ ما كنت أعلم به من رجل منكم، وبأنّه لجبريل)، وفي أخرى: ثمّ ولّى، فلمّا لم ير طريقه قال النّبيّ : (سبحان اللّه هذا جبريل، أتاكم ليعلّمكم دينكم خذوا عنه فوالّذي نفسي بيده ما شبّه علىّ منذ أتاني قبل مرّتي هذه، وما عرفته حتّى ولّى). (رواه مسلم) أي: عن عمر، ورواه البخاريّ في كتاب الزّكاة مع تغيير، كذا قاله بعض شرّاح الأربعين، وقال ابن حجر: ولم يخرجه البخاريّ عن عمر لاختلاف فيه على بعض رواته. وقال السّيّد جمال الدّين: وقد رواه البزّار في مسنده من طريق أنس بن مالك، وأبو عوانة الإسفرايينيّ في صحيحه من طريق جرير بن عبد اللّه البجليّ، والنّسائيّ في سننه من طريق أبي ذرّ الغفاريّ، وأحمد بن حنبل في مسنده من طريق ابن عبّاس، وكلّ واحد من الطّرق مشتمل على فوائد غزيرة، وفوائد كثيرة لم توجد في طريق عمر، وأبي هريرة.

وهذا حديث جليل سمّي حديث جبريل، وأمّ الأحاديث، وأمّ الجوامع؛ لأنّه متضمّن للشّريعة، والطّريقة، والحقيقة بيانا إجماليّا على الوجه الأتمّ الّذي علم تفاصيلها من السّنن النّبويّة، والشّرائع المصطفويّة على صاحبها ألوف التّحيّة، كما أنّ فاتحة الكتاب تسمّى أمّ القرآن، وأمّ الكتاب لاشتمالها على المعاني القرآنيّة، والحكم الفرقانيّة بالدّلالات الإجماليّة، فحديث: إنّما الأعمال بالنّيّات بمنزلة البسملة، وهذا الحديث بمنزلة الفاتحة المصدّرة بالحمدلة، وهذا وجه وجيه، وتنبيه نبيه لاختيارها في صدر الكتاب، ومفتح الأبواب.


الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
شرح حديث جبريل عليه السلام Reviewed by احمد خليل on 1:59:00 ص Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.