شرح حديث/ إنما الأعمال بالنيات
الأربعين النووية
شرح العلامة الشيخ عبد
العزيز بن عبد الله بن باز
شرح
الحديث الأول: إنما الأعمال بالنيات.
عن أميرِ المؤمنينَ أبي
حفصٍ عمرَ بنِ الخطَّابِ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ رسولَ ﷺ يقول: «إِنَّمَا
الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلي اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ
كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ
إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
رواه
إماما المحدِّثينَ: أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ
المغيرةِ ابنِ بَرْدِزْبَه البُخاريُّ، وأبو الحُسَيْنِ مسلِمُ بنُ الحجَّاجِ بنِ
مُسلمٍ القُشيْريُّ النَّيْسَابوريُّ -رضي الله عنهما- في صحيحيهما اللَّذين هما
أصحُّ الكتُبِ الْمُصَنَّفةِ [١].
الشرح:
هذَا
اَلحدِيث، حديث عُمَر بْن الخطَّاب الفاروق -رَضِي اَللَّه عَنْه- الخليفة
الرَّاشد ثَانِي الخلفاء الرَّاشدين، وَهُو أَفضَل الصَّحابة بَعْد اَلصدِيق رَضِي
اَللَّه عَنْه، يَقُول: سُمعَت اَلنبِي ﷺ
يَقُول: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ،
وإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ ما نَوَى»، هذَا حديث عظيم.
قال
بَعْض أَهْل العلْم: إِنَّه نِصْف الدِّين؛ لِأنَّ الشَّرْع نِصْفَان: نِصْف
يَتَعلَّق بِالْقلوب، ونصْف يَتَعلَّق بِالظَّاهر، فالصَّلاة والزَّكاة والصِّيام
وغيْر ذَلِك يَتَعلَّق بِالظَّاهر، وَهذَا اَلحدِيث يَتَعلَّق بِالْقلوب، ومَا فِي
القلْب هُو الأسَاس، فِلو صَلَّى ومَا نوى الصَّلَاة، أو زَكِي ومَا نوى الزَّكَاة،
أو صام ومَا نوى الصِّيَام، أو حجٍّ ومَا نوى اَلحَج؛ أَوقَع الأعْمال بِغَير نِيَّة،
فلَا تصير عِبادة؛ بل لَا بُدَّ مِن النِّيَّة، «إِنَّمَا
الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ»، وَهذَا حَصْر لِلْأعْمال بِالنِّيَّات [٢]؛ يَعنِي:
صِحَّة وفسادًا، وَقبُولا وردًّا، وعِظمًا لِلثَّوَاب وَقلَّة لَه؛ على حسب مَا
فِي اَلقُلوب مِن الإخْلاص لِلَّه، والصدقِ والرَّغْبة فِي مَا عِنْد اَللَّه.
وهناك
أَدلَّة كَثِيرَة تَدُل على عِظم شَأْن القلْب، ومَا يَتَعلَّق بِه، مِثْل قَولِه ﷺ: «إِنَّ الله لا
يَنْظُرُ إِلى صُوَرِكُمْ وأموالكم، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعْمَالِكُمْ»
[٣].
وقَولِه
ﷺ: «وإِنَّمَا لِكُلِّ أمْرِئٍ ما نَوَى»؛ أيْ: لَيْس
لَه إِلَّا مَا نوًى، فَمِن نوى بِعبادته وَجْه اَللَّه فله مَا نوى، وَإِن نوى
رِيَاء النَّاس فله مَا نوى، وَهذَا يُوجب الإخْلاص فِي الأعْمال، وأنَّ اَلمُؤمن
يُلَاحِظ قَلبُه فِي كُلِّ أعْماله: إِذَا صَلَّى، إِذَا صام، إِذَا اِتَّبع جِنازة،
إِذَا عاد مريضًا، إِذَا باع واشْتَرى، إِلى غَيْر ذَلِك؛ يَكُون لَه نِيَّة
صَالِحة فِي تصرُّفاته وأعْماله، يُريد وَجْه اَللَّه والدَّار اَلآخِرة، يُريد
مَا أحلَّ اَللَّه، وترْك مَا حرم اَللَّه، فَإذَا اِتَّبع جِنازة يُريد الأجْر؛
لَا رِيَاء ولَا سُمعَة، يُصلِّي يُريد وَجْه اَللَّه، يَصُوم يُريد وَجْه
اَللَّه، يُؤدِّي الزَّكَاة يُريد وَجْه اَللَّه، إِلى غَيْر ذَلِك.
وَتَقدَّم
أنَّ بَعْض أَهْل العلْم قال عن هذَا اَلحدِيث: إِنَّه شَطْر الدِّين، والشَّطْر
الآخر حديث عَائِشة -رَضِي اَللَّه عَنهَا-: «مِنْ
أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» [٤]، وفي رواية: «مِنْ عَمَلِ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ» [٥]، وَهذَا يَتَعلَّق بِالْأَمْر الظَّاهر والْحكْم الظَّاهر،
وَأنَّه لَا بُدَّ مِن مُوَافقَة الشَّرْع.
فالدِّين
يَنقَسِم إِلى قِسْميْنِ: قِسْم يَتَعلَّق بِالنِّيَّة، وَهُو فِي حديث عُمَر
رَضِي اَللَّه عَنْه، وقسْم يَتَعلَّق بِالظَّاهر وَهُو فِي حديث عَائِشة رَضِي
اَللَّه عَنهَا، فَشرَط العمل أَمرَان: إِن يَكُون لِلَّه، وأن يَكُون مُوافِقًا
لِلشَّرْع.
اَلذِي
لِلَّه دَاخِل فِي شَهادَة أنَّ لَا إِله إِلَّا اَللَّه، والْموافق لِلشَّرْع
دَاخِل فِي شَهادَة أنَّ مُحَمدا رَسُول اَللَّه.
فلَا
بُدَّ أن يَكُون العمل مُوافِقًا لــــ لَا إِله إِلَّا اَللَّه، وموافقًا لِشهادة
أنَّ مُحَمدا رَسُول اَللَّه؛ يَكُون فِيه الإخْلاص وَيكُون فِيه الموافقة لِلشَّرْع.
هَكذَا
جميع العبادات؛ إِنَّ كَانَت لِغَير اَللَّه فَهِي شرك، وَإِن كَانَت على غَيْر
الشَّريعة صَارَت بِدْعَة.
فلَا
بُد فِي العمل اَلذِي يَتَقرَّب بِه الإنْسان أن يَكُون لِلَّه، ولَا بُدَّ أن
يَكُون مُوافِقًا لِلشَّريعة، كمَا قال تَعالَى: {فَمَن
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: ١١٠]، فقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا
صَالِحًا}؛ هَذِه مُوَافقَة الشَّرْع، {وَلَا
يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}؛ هذَا الإخْلاص، فلَا بُدَّ أن
يُوَافِق الشَّرْع، ولَا بُدَّ أن يَكُون لِلَّه وَحدَه.
ثُمَّ
مَثَّل اَلنبِي ﷺ مِثالا فَقَال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ،
فَهِجْرَتُهُ إِلي اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا
يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»،
فالنَّاس يُهاجرون مِن بِلَاد الشِّرْك إِلى بِلَاد التَّوْحيد مِثْل مَا كان فِي
عَهْد اَلنبِي ﷺ، فقد هاجروا إِلى المدينة،
فمن كَانَت هِجْرته مِن أَجْل اَللَّه، أيٌّ: فارًّا بِدينه مِن الشِّرْك والْكفْر،
فَهذَا هِجْرته إِلى اَللَّه، هذَا صَادَق الهجْرة، هِجْرته صَحِيحَة إِلى اَللَّه
وَرسُوله.
وَمِن
كَانَت هِجْرته إِلى دُنيَا يُصيبهَا؛ اِنتقَل مِن بِريطانْيَا، أو مِن أَمرِيكا
إِلى البلَاد الإسْلاميَّة اَلأُخرى لِأَجل الدُّنْيَا وليْس لِأَجل سَلامَة دِينه،
أو اِنتقَل لِيتزَوَّج اِمرأَة فِي البلد اَلذِي اِنتقَل إِلَيه، أو لِمقاصد
أُخرَى غَيْر الدِّين؛ فَهذَا هِجْرته إِلى مَا هَاجَر إِلَيه، لَا يَكُون مُهاجِرًا؛
لِأَنه إِنَّما هَاجَر لِهَذا لِقَصد اَلذِي حَملَه على الانْتقال، لِيبيع ويشْتَري،
لِيتجْر، لِيتزَوَّج، لِيقابل إِنْسانًا، هذَا مَا هَاجَر، وَهذِه لَيسَت هِجْرَة.
الهجْرة
أن يَنتَقِل مِن بِلَاد الشِّرْك إِلى بِلَاد الإسْلام بِنْيَة صَالِحة، بِنْيَة
الفرَار بِدينه والسَّلامة لِدينه، وهكذَا بَقيَّة اَلأُمور. وَفْق اَللَّه
اَلجمِيع.
[١]
"صحيح البخاري" (١)، و "صحيح مسلم" (١٩٠٧).
[٢]
قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (١٣/ ٥٤): "لَفظُه
إِنَّما مَوضُوعة لِلْحصْر، تُثْبِت المذْكور وَتنفِي مَا سِوَاه، فَتقدِير هذَا اَلحدِيث:
إِنَّ الأعْمال تَحسُب بِنْيَة، ولَا تَحسُب إِذَا كَانَت بِلَا نِيَّة، وفيه دليل
على أنَّ الطَّهارة؛ وَهِي: اَلوُضوء والْغَسْل والتَّيمُّم لَا تَصِح إِلَّا بِالنِّيَّة،
وَكذَلِك الصَّلَاة والزَّكاة والصَّوْم والْحجُّ والاعْتكاف وَسائِر العبادات".
[٣] رواه مسلم (٢٥٦٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[٤]
رواه البخاري (٢٦٩٧)، ومسلم (١٧١٨).
[٥]
رواه مسلم (١٧١٨).
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح
الأعمال
ليست هناك تعليقات: