شرح مقدمة باب ملاطفة اليتيم والبنات من كتاب رياض الصالحين
شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
رحمه الله
شرح أحاديث رياض الصالحين باب ملاطفة اليتيم والبنات
شرح أحاديث رياض الصالحين باب ملاطفة اليتيم والبنات
شرح مقدمة باب ملاطفة اليتيم والبنات من كتاب رياض الصالحين
جميع احاديث
رياض
الصالحين
موجودة
هنا
وكلها
فى
الصحيحين
مع
الشرح
لها
على
مدونة
فذكر
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة
الله وبركاته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،
وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه ، أما بعد
باب ملاطفة اليتيم والبنات
وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين ، والإحسان إليهم ، والشفقة
عليهم ، والتواضع معهم ، وخفض الجناح لهم
وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين ، والإحسان إليهم ، والشفقة
عليهم ، والتواضع معهم ، وخفض الجناح لهم
فال الله تعالى : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِلْمُؤْمِنِينَ )(الحجر: 88)،
وقال تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ
عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (الكهف:28) .
الـشـرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : باب ملاطفة اليتامى والضعفة والبنات ، ونحوهم ممن هم محل الشفقة والرحمة ؛ وذلك أن دين الإسلام دين الرحمة والعطف والإحسان ، وقد حث الله عز وجل على الإحسان في عدة آيات من كتابه ، وبين سبحانه وتعالى أنه يحب المحسنين ، والذين هم في حاجة إلى الإحسان يكون الإحسان إليهم أفضل وأكمل ؛ فمنهم اليتامى .
واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه قبل بلوغه ؛ سواء كان ذكر أو أنثى ، ولا عبرة بوفاة الأم ، يعني أن اليتيم هو الصغير الذي مات أبوه قبل بلوغه وإن كان له أم ، وأما من ماتت أمه ، وأبوه موجود فليس بيتيم ، خلافاً لما يفهمه عوام الناس ؛ حيث يظنون أن اليتيم هو الذي ماتت أمه وليس كذلك ، بل اليتيم هو الذي مات أبوه .
ويسمى يتيماً هو الانفراد ؛ لأن هذا الصغير انفرد عن كاسب ، وهو صغير لا يستطيع الكسب .
وقد أوصى الله سبحانه وتعالى في عدة آيات باليتامى ، وجعل لهم حقاً خاصاً ؛ لأن اليتيم قد انكسر قلبه بموت أبيه ، فهو محل للعطف والرحمة قال الله عز وجل : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) [النساء:9) .
وكذلك البنات والنساء محل العطف والشفقة والرحمة ؛ لأنهن ضعيفات . ضعيفات في العقل ، وفي العزيمة ، وفي كل شيء فالرجال أقوى من النساء في الأبدان والعقول والأفكار والعزيمة وغير ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) [النساء: 34) .
وكذلك أيضاً المنكسرون ؛ يعني الذين أصابهم شيء فانكسروا من أجله ، وليس هو كسر العظم بل كسر القلب ، يعني مثلاً أصابته جائحة اجتاحت ماله ، أو مات أهله أو مات صديق له فانكسر قلبه ، والمهم أن المنكسر ينبغي ملاطفته ، ولهذا شرعت تعزية من مات له ميت إذا أصيب بموته؛ يُعزّى ويلاطف ويبين له أن هذا أمر الله ، وأن الله سبحانه وتعالى إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وما أشبه ذلك .
وكذلك ينبغي خفض الجناح لهم ولين الجانب ، قال الله تعالى ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) [الحجر:88) ، اخفض جناحك يعني تطامن لهم وتهاون لهم ، وقال :( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ) يعني حتى لو شمخت نفسك وارتفعت في الهواء كما يرتفع الطير فاخفض جناحك ، ولو كان عندك من المال ولك من الجاه والرئاسة ما يجعلك تتعالى على الخلق ، وتطير كما يطير الطير في الجو فاخفض الجناح ، اخفض الجناح حتى يكونوا فوقك ، ( لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وهذا أمر للرسول عليه الصلاة والسلام وهو أمر للأمة كلها .
فيجب على الإنسان أن يكون لين الجانب لإخوانه المؤمنين ، ويجب عليه أيضاً أنه كلما رأى إنساناً أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليخفض له جناحه أكثر ؛ لأن المتبع للرسول عليه الصلاة والسلام أهل لأن يتواضع له ، وأن يكرم ، وأن يعزز ، لا لأنه فلان بن فلان لكن لأنه اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ، كل من اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فهو حبيبنا ؛ وهو أخونا ، وهو صديقنا ، وهو صاحبنا ، وكل من كان أبعد عن اتباع الرسول فإننا نبتعد عنه بقدر ابتعاده عن اتباع الرسول ، هكذا المؤمن يجب أن يكون خافضاً جناحه لكل من اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ، اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين .
وقال الله تعالى لرسوله : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [الكهف: 28)، فاصبر نفسك : احبسها مع هؤلاء القوم السادة الكرماء الشرفاء ، الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي : يعني صباحاً ومساءً ، لا رياء ولا سمعة ، ولكنهم يريدون وجهه . يريدون وجه الله عز وجل في دعائهم له وعبادتهم له وذكرهم له وتسبيحهم له .
( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [الكهف:28) ، يعني لا تبعد عنهم ، لا تعد دائماً عنهم عيناك : أي لا تتجاوز عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا .مثلاً إذا كان هناك رجلان ؛ أحدهما مقبل على طاعة الله يدعو ربه بالغداة والعشي، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويصوم، ويحسن إلى الناس، وآخر غني كبير عنده أموال وقصور وسيارات وخدم، أيهم أحق أن نصبر أنفسنا معه؟ الأول أحق أن نصبر أنفسنا معه، وأن نجالسه، وأن نخالطه وأن لا نتعداه نريد زينة الحياة الدنيا.
الحياة كلها عرض زائل، وما فيها من النعيم أو من السرور فإنه محفوف بالأحزان والتنكيد ، ما من فرح في الدنيا إلا ويتلوه ترح وحزن. قال- أظنه- ابن مسعود رضي الله عنه ما ملئ بيت فرحاً إلا ملئ حزناً وترحاً، (1)وصدق رضي الله عنه: لو لم يكن من ذلك إلا أنهم سيموتون تباعاً واحداً بعد الثاني، كلما مات واحد حزنوا عليه، فتتحول هذه الأفراح والمسرات إلى أحزان وأتراح فالدنيا كلها ليست بشيء.
إذاً لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، بل كن معهم وكن ناصراً لهم ، ولا يهمنك ما متعنا به أحداً من الدنيا ، وهذا كقوله عز وجل : ( وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 131، 132) ، أسأل الله أن يحسن لي ولكم العافية ، وأن يجعل العاقبة لنا ولإخواننا المسلمين حميدة .
وقال تعالى : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) [الضحى: 9 ، 10) .
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ساقه من الآيات الكريمة في باب الحنو على الفقراء واليتامى والمساكين وما أشبههم ، قال : وقول الله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) [الضحى: 6 ،11)، الخطاب في قوله : ( أَلَمْ يَجِدْكَ ) للنبي صلى الله عليه وسلم . يقرر الله تعالى في هذه الآيات أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتيماً ، فإنه عليه الصلاة والسلام عاش من غير أم ولا أب ، فكفله جده عبد المطلب ، ثم مات هو في السنة الثامنة من عمره صلى الله عليه وسلم ، ثم كفله عمه أبو طالب . فكان يتيماً وكان صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط ، يعني على شيء يسير من الدراهم ؛ لأنه ما من نبي بعثه الله إلا ورعى الغنم ، فكل الأنبياء الذين أرسلوا أول أمرهم كانوا رعاة غنم ، من أجل أن يعرقوا ويتمرنوا على الرعاية وحسن الولاية ، واختار الله لهم أن تكون رعيتهم غنماً ؛ لأن راعي الغنم يكون عليه السكينة والرأفة والرحمة ؛ لأنه يرعى مواشي ضعيفة بخلاف رعاة الإبل ، رعاة الإبل أكثر ما يكون فيهم الجفاء والغلظة ؛ لأن الإبل كذلك غليظة قوية جبارة .
فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً ، ثم إن الله سبحانه وتعالى أكرمه فيسر له زوجة صالحة ، وهي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ؛ تزوجها وله خمس وعشرون من العمر ولها أربعون سنة ، وكانت حكيمة عاقلة صالحة ، رزقه الله أولاده كلهم من بنين وبنات إلا إبراهيم فإنه من كان سريته مارية القبطية ، المهم أن الله يسرها له وقامت بشئونه ، ولم يتزوج سواها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت .
أكرمه الله عز وجل بالنبوة فكان أول ما بدىء بالوحي أن يرى الرؤيا في المنام ، فإذا رأى الرؤيا في المنام جاءت مثل فلق الصبح في يومها بينة واضحة ؛ لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، فدعا إلى الله وبشر وأنذر وتبعه الناس ، وكان هذا اليتيم الذي يرعى الغنم كان إماماً لأمه هي أعظم الأمم ، وكان راعياً لهم عليه الصلاة والسلام راعياً للبشر ولهذه الأمة العظيمة .
قال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) [الضحى:6) ، آواك الله بعد يتمك ، ويسر لك من يقوم بشئونك حتى ترعرعت ، وكبرت ، ومنّ الله عليك بالرسالة العظمى .
(وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) [الضحى:7) وجدك ضالاً : يعني غير عالم ، كما قال الله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) [العنكبوت: 48)وقال تعالى : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء: 113) ، وقال الله تعالى : ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ ) [الشورى: 52)، ولكن صار بهذا الكتاب العظيم عالماً كامل الإيمان عليه الصلاة والسلام ، وجدك ضالاً أي غير عالم ولكنه هداك . بماذا هداه ؟ هداه الله بالقرآن .
(وَوَجَدَكَ عَائِلاً ) يعني فقيراً ( فَأَغْنَى) أغناك ، وفتح الله عليك الفتوح حتى كان يقسم ويعطي الناس ، وقد أعطى ذات يوم رجلاً غنماً بين جبلين ، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة عليه الصلاة والسلام .
ثم تأملوا قوله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) ما قال فآواك بل قال : (فَآوَى )(وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) ولم يقل فهداك ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ولم يقل فأغناك . لماذا ؟ لمناسبتين ؛ إحداهما لفظية ، والثانية معنوية .
أما اللفظية : فلأجل تناسب رؤوس الآيات كقوله تعالى: ( وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) [الضحى:1 ـ5) كل آخر الآيات ألفات، فقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى:6) ، لو قال فآواك اختلف اللفظ ، ووجدك ضالاً فهداك اختلف اللفظ ، ووجدك عائلاً فأغناك اختلف اللفظ ، لكن جعل الآيات كلها على فواصل حرف واحد .
المناسبة الثانية معنوية : وهي أعظم ، ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) هل آواه الله وحده أو آواه وآوى أمته ؟ والجواب : الثاني ، آواه الله وآوى على يديه أمما لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ووجدك ضالاً فهدى .هل هداه وحده ؟ لا ؛ هدى به أمما عظيمة إلى يوم القيامة ، ووجدك عائلاً فأغنى . هل أغناه الله وحده ؟ لا ؛ أغناه الله وأغنى به . كم حصل للأمة الإسلامية من الفتوحات العظيمة. ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) [الفتح: 20)، فأغناهم الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم .
إذاً ألم يجدك يتيماً فآواك وآوى بك ، ووجدك ضالاً فهداك وهدى بك ووجدك عائلاً فأغناك وأغنى بك ، هكذا حال الرسول عليه الصلاة والسلام .
ثم قال : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) اذكر نفسك حين كنت يتيماً ، فلا تقهر اليتيم ، بل سهل أمره ؛ إذا صاح فسكته ، إذا غضب فأرضه ، إذا تعب فخفف عليه ، وهكذا .
( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) السائل : يظهر من سياق الآيات أنه سائل المال الذي يقول أعطني مالاً ، فلا تنهره لأنه قال : ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ، فلما أغناك لا تنهر السائل . تذكر حالك حينما كنت فقيراً ، فلا تنهر السائل .
ويحتمل أن يُراد بالسائل سائل المال وسائل العلم ، حتى الذي يسأل العلم لا تنهره . بل الذي يسأل العلم القه بانشراح صدر ؛ لأنه لولا أنه محتاج ولولا أن عنده خوف الله عز وجل ما جاء يسأل ، فلا تنهر اللهم إلا من تعنت فهذا لا حرج أن تنهره .
لو كنت تخبره ثم يقول لكل شيء : لماذا هذا حرام ؟ ولماذا هذا حلال ؟ لماذا حرم الله الربا وأحل البيع ؟ لماذا حرم الله الأم من الرضاع ؟ وأشياء كثيرة من قبيل هذا . فهذا الذي يتعنت انهره ولا حرج أن تغضب عليه .
كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام حين تشاجر رجل من الأنصار والزبير بن العوام ، في الوادي حيث يأتي السيل ، وكان الزبير رضي الله عنه حائطه قبل حائط الأنصاري فتنازعا ؛ الأنصاري يقول للزبير : لا تحبس الماء عني والزبير يقول : أنا أعلى فأنا أحق ، فتشاجرا وتخاصما عند الرسول عليه الصلاة والسلام ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اسق يا زبير ثم أرسله إلى جارك ) ، وهذا حكم . فقال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ! كلمة لكن الغضب حمله عليها والعياذ بالله ، والزبير بن العوام بن صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول عليه الصلاة والسلام . قال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : ( اسق يا زبير حتى يصل إلى الجدر ثم أرسله إلى جارك )(48)
فالحاصل أن السائل للعلم لا تنهره ، بل تلقه بصدر رحب وعلّمه حتى يفهم ، خصوصاً في وقتنا الآن ، فكثير من الناس الآن يسألك وقلبه ليس معك . تجيبه بالسؤال ثم يفهمه خطأ ثم يذهب يقول للناس : أفتاني العالم الفلاني بكذا وكذا ، ولهذا ينبغي ألا تطلق الإنسان الذي يسألك حتى تعرف أنه عرف .
( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) نعمة الله عليك حدث بها ، قل الحمد لله ؛ رزقني الله علماً رزقني الله مالاً ، ورزقني الله ولداً وما أشبه ذلك .
والتحدث بنعمة الله نوعان : تحديث باللسان ، وتحديث بالأركان .
تحديث باللسان : كأن تقول : أنعم الله علي ؛ كنت فقيراً فأغناي الله ، كنت جاهلاً فعلمني الله ، وما أشبه ذلك.
والتحديث بالأركان : أن ترى أثر نعمة الله عليك ، فإن كنت غنياً فلا تلبس ثياب الفقراء بل البس ثياباً تليق بك ، وكذلك في المنزل ، وكذلك في المركوب ، في كل شيء دع الناس يعرفون نعمة الله عليك ، فإن هذا من التحديث بنعمة الله عز وجل ، ومن التحديث بنعمة الله عز وجل إذا كنت قد أعطاك الله علماً أن تحدث الناس به تعلم الناس ؛ لأن الناس محتاجون . وفقني الله والمسلمين لما يحب ويرضى .
وقال تعالى( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)[الماعون:1ـ3)
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في سياق الآيات التي فيها الحث على الرفق باليتامى ونحوهم من الضعفاء، قال : وقال تعالى : ( أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) .
( أَرَأَيْت ) يقول العلماء : إن معناها أخبرني ، يعني أخبرني عن حال هذا الرجل وماذا تكون . والدين : الجزاء ؛ يعني يكذب بالجزاء وباليوم الآخر ولا يصدق به ، وعلامة ذلك أنه يدع اليتيم يعني يدفعه بعنف وشدة و لا يرحمه .
( وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) أي : لا يحث الناس على طعام المسكين ، وهو بنفسه لا يفعله أيضاً ، ولا يطعم المساكين ، فحال هذا والعياذ بالله أسوأ حال ؛ لأنه لو كان يؤمن بيوم الدين حقيقة لرحم من أوصى الله برحمتهم ، وحض على طعام المسكين .
وفي سورة الفجر يقول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر: 17 ،18) ،وهذه أبلغ مما في سورة الماعون لأنه قال : ( لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) وإكرامه أكثر من الوقوف بدون إكرام ولا إهانة ، فاليتيم يجب أن يكرم .
وتأمل قوله : ( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) فالمسكين حظه الإطعام ودفع حاجته ، أما اليتيم فالإكرام . فإن كان غنياً فإنه يكرمه ليتمه ولا يطعم لغناه ، وإن كان فقيراً ـ أي اليتيم ـ فإنه يكرم ليتمه ويطعم لفقره ، ولكن أكثر الناس لا يبالون بهذا الشيء .
واعلم أن الرفق بالضعفاء واليتامى والصغار يجعل في القلب رحمة وليناً وعطفاً وإنابة إلى الله عز وجل ، لا يدركها إلا من جرب ذلك ، فالذي ينبغي لك أن ترحم الصغار وترحم الأيتام وترحم الفقراء ، حتى يكون في قلبك العطف والحنان والرحمة و ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) (49) .
نسأل الله أن يعمنا والمسلمين برحمته وفضله إنه كريم جواد .
الـشـرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : باب ملاطفة اليتامى والضعفة والبنات ، ونحوهم ممن هم محل الشفقة والرحمة ؛ وذلك أن دين الإسلام دين الرحمة والعطف والإحسان ، وقد حث الله عز وجل على الإحسان في عدة آيات من كتابه ، وبين سبحانه وتعالى أنه يحب المحسنين ، والذين هم في حاجة إلى الإحسان يكون الإحسان إليهم أفضل وأكمل ؛ فمنهم اليتامى .
واليتيم هو الصغير الذي مات أبوه قبل بلوغه ؛ سواء كان ذكر أو أنثى ، ولا عبرة بوفاة الأم ، يعني أن اليتيم هو الصغير الذي مات أبوه قبل بلوغه وإن كان له أم ، وأما من ماتت أمه ، وأبوه موجود فليس بيتيم ، خلافاً لما يفهمه عوام الناس ؛ حيث يظنون أن اليتيم هو الذي ماتت أمه وليس كذلك ، بل اليتيم هو الذي مات أبوه .
ويسمى يتيماً هو الانفراد ؛ لأن هذا الصغير انفرد عن كاسب ، وهو صغير لا يستطيع الكسب .
وقد أوصى الله سبحانه وتعالى في عدة آيات باليتامى ، وجعل لهم حقاً خاصاً ؛ لأن اليتيم قد انكسر قلبه بموت أبيه ، فهو محل للعطف والرحمة قال الله عز وجل : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) [النساء:9) .
وكذلك البنات والنساء محل العطف والشفقة والرحمة ؛ لأنهن ضعيفات . ضعيفات في العقل ، وفي العزيمة ، وفي كل شيء فالرجال أقوى من النساء في الأبدان والعقول والأفكار والعزيمة وغير ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) [النساء: 34) .
وكذلك أيضاً المنكسرون ؛ يعني الذين أصابهم شيء فانكسروا من أجله ، وليس هو كسر العظم بل كسر القلب ، يعني مثلاً أصابته جائحة اجتاحت ماله ، أو مات أهله أو مات صديق له فانكسر قلبه ، والمهم أن المنكسر ينبغي ملاطفته ، ولهذا شرعت تعزية من مات له ميت إذا أصيب بموته؛ يُعزّى ويلاطف ويبين له أن هذا أمر الله ، وأن الله سبحانه وتعالى إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وما أشبه ذلك .
وكذلك ينبغي خفض الجناح لهم ولين الجانب ، قال الله تعالى ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) [الحجر:88) ، اخفض جناحك يعني تطامن لهم وتهاون لهم ، وقال :( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ) يعني حتى لو شمخت نفسك وارتفعت في الهواء كما يرتفع الطير فاخفض جناحك ، ولو كان عندك من المال ولك من الجاه والرئاسة ما يجعلك تتعالى على الخلق ، وتطير كما يطير الطير في الجو فاخفض الجناح ، اخفض الجناح حتى يكونوا فوقك ، ( لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) وهذا أمر للرسول عليه الصلاة والسلام وهو أمر للأمة كلها .
فيجب على الإنسان أن يكون لين الجانب لإخوانه المؤمنين ، ويجب عليه أيضاً أنه كلما رأى إنساناً أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فليخفض له جناحه أكثر ؛ لأن المتبع للرسول عليه الصلاة والسلام أهل لأن يتواضع له ، وأن يكرم ، وأن يعزز ، لا لأنه فلان بن فلان لكن لأنه اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ، كل من اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فهو حبيبنا ؛ وهو أخونا ، وهو صديقنا ، وهو صاحبنا ، وكل من كان أبعد عن اتباع الرسول فإننا نبتعد عنه بقدر ابتعاده عن اتباع الرسول ، هكذا المؤمن يجب أن يكون خافضاً جناحه لكل من اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام ، اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين .
وقال الله تعالى لرسوله : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [الكهف: 28)، فاصبر نفسك : احبسها مع هؤلاء القوم السادة الكرماء الشرفاء ، الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي : يعني صباحاً ومساءً ، لا رياء ولا سمعة ، ولكنهم يريدون وجهه . يريدون وجه الله عز وجل في دعائهم له وعبادتهم له وذكرهم له وتسبيحهم له .
( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [الكهف:28) ، يعني لا تبعد عنهم ، لا تعد دائماً عنهم عيناك : أي لا تتجاوز عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا .مثلاً إذا كان هناك رجلان ؛ أحدهما مقبل على طاعة الله يدعو ربه بالغداة والعشي، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويصوم، ويحسن إلى الناس، وآخر غني كبير عنده أموال وقصور وسيارات وخدم، أيهم أحق أن نصبر أنفسنا معه؟ الأول أحق أن نصبر أنفسنا معه، وأن نجالسه، وأن نخالطه وأن لا نتعداه نريد زينة الحياة الدنيا.
الحياة كلها عرض زائل، وما فيها من النعيم أو من السرور فإنه محفوف بالأحزان والتنكيد ، ما من فرح في الدنيا إلا ويتلوه ترح وحزن. قال- أظنه- ابن مسعود رضي الله عنه ما ملئ بيت فرحاً إلا ملئ حزناً وترحاً، (1)وصدق رضي الله عنه: لو لم يكن من ذلك إلا أنهم سيموتون تباعاً واحداً بعد الثاني، كلما مات واحد حزنوا عليه، فتتحول هذه الأفراح والمسرات إلى أحزان وأتراح فالدنيا كلها ليست بشيء.
إذاً لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، بل كن معهم وكن ناصراً لهم ، ولا يهمنك ما متعنا به أحداً من الدنيا ، وهذا كقوله عز وجل : ( وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طه: 131، 132) ، أسأل الله أن يحسن لي ولكم العافية ، وأن يجعل العاقبة لنا ولإخواننا المسلمين حميدة .
وقال تعالى : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) [الضحى: 9 ، 10) .
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ساقه من الآيات الكريمة في باب الحنو على الفقراء واليتامى والمساكين وما أشبههم ، قال : وقول الله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) [الضحى: 6 ،11)، الخطاب في قوله : ( أَلَمْ يَجِدْكَ ) للنبي صلى الله عليه وسلم . يقرر الله تعالى في هذه الآيات أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتيماً ، فإنه عليه الصلاة والسلام عاش من غير أم ولا أب ، فكفله جده عبد المطلب ، ثم مات هو في السنة الثامنة من عمره صلى الله عليه وسلم ، ثم كفله عمه أبو طالب . فكان يتيماً وكان صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط ، يعني على شيء يسير من الدراهم ؛ لأنه ما من نبي بعثه الله إلا ورعى الغنم ، فكل الأنبياء الذين أرسلوا أول أمرهم كانوا رعاة غنم ، من أجل أن يعرقوا ويتمرنوا على الرعاية وحسن الولاية ، واختار الله لهم أن تكون رعيتهم غنماً ؛ لأن راعي الغنم يكون عليه السكينة والرأفة والرحمة ؛ لأنه يرعى مواشي ضعيفة بخلاف رعاة الإبل ، رعاة الإبل أكثر ما يكون فيهم الجفاء والغلظة ؛ لأن الإبل كذلك غليظة قوية جبارة .
فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً ، ثم إن الله سبحانه وتعالى أكرمه فيسر له زوجة صالحة ، وهي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ؛ تزوجها وله خمس وعشرون من العمر ولها أربعون سنة ، وكانت حكيمة عاقلة صالحة ، رزقه الله أولاده كلهم من بنين وبنات إلا إبراهيم فإنه من كان سريته مارية القبطية ، المهم أن الله يسرها له وقامت بشئونه ، ولم يتزوج سواها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت .
أكرمه الله عز وجل بالنبوة فكان أول ما بدىء بالوحي أن يرى الرؤيا في المنام ، فإذا رأى الرؤيا في المنام جاءت مثل فلق الصبح في يومها بينة واضحة ؛ لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، فدعا إلى الله وبشر وأنذر وتبعه الناس ، وكان هذا اليتيم الذي يرعى الغنم كان إماماً لأمه هي أعظم الأمم ، وكان راعياً لهم عليه الصلاة والسلام راعياً للبشر ولهذه الأمة العظيمة .
قال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) [الضحى:6) ، آواك الله بعد يتمك ، ويسر لك من يقوم بشئونك حتى ترعرعت ، وكبرت ، ومنّ الله عليك بالرسالة العظمى .
(وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) [الضحى:7) وجدك ضالاً : يعني غير عالم ، كما قال الله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) [العنكبوت: 48)وقال تعالى : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء: 113) ، وقال الله تعالى : ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ ) [الشورى: 52)، ولكن صار بهذا الكتاب العظيم عالماً كامل الإيمان عليه الصلاة والسلام ، وجدك ضالاً أي غير عالم ولكنه هداك . بماذا هداه ؟ هداه الله بالقرآن .
(وَوَجَدَكَ عَائِلاً ) يعني فقيراً ( فَأَغْنَى) أغناك ، وفتح الله عليك الفتوح حتى كان يقسم ويعطي الناس ، وقد أعطى ذات يوم رجلاً غنماً بين جبلين ، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة عليه الصلاة والسلام .
ثم تأملوا قوله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) ما قال فآواك بل قال : (فَآوَى )(وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) ولم يقل فهداك ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ولم يقل فأغناك . لماذا ؟ لمناسبتين ؛ إحداهما لفظية ، والثانية معنوية .
أما اللفظية : فلأجل تناسب رؤوس الآيات كقوله تعالى: ( وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) [الضحى:1 ـ5) كل آخر الآيات ألفات، فقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى:6) ، لو قال فآواك اختلف اللفظ ، ووجدك ضالاً فهداك اختلف اللفظ ، ووجدك عائلاً فأغناك اختلف اللفظ ، لكن جعل الآيات كلها على فواصل حرف واحد .
المناسبة الثانية معنوية : وهي أعظم ، ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) هل آواه الله وحده أو آواه وآوى أمته ؟ والجواب : الثاني ، آواه الله وآوى على يديه أمما لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ووجدك ضالاً فهدى .هل هداه وحده ؟ لا ؛ هدى به أمما عظيمة إلى يوم القيامة ، ووجدك عائلاً فأغنى . هل أغناه الله وحده ؟ لا ؛ أغناه الله وأغنى به . كم حصل للأمة الإسلامية من الفتوحات العظيمة. ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) [الفتح: 20)، فأغناهم الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم .
إذاً ألم يجدك يتيماً فآواك وآوى بك ، ووجدك ضالاً فهداك وهدى بك ووجدك عائلاً فأغناك وأغنى بك ، هكذا حال الرسول عليه الصلاة والسلام .
ثم قال : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) اذكر نفسك حين كنت يتيماً ، فلا تقهر اليتيم ، بل سهل أمره ؛ إذا صاح فسكته ، إذا غضب فأرضه ، إذا تعب فخفف عليه ، وهكذا .
( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) السائل : يظهر من سياق الآيات أنه سائل المال الذي يقول أعطني مالاً ، فلا تنهره لأنه قال : ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ، فلما أغناك لا تنهر السائل . تذكر حالك حينما كنت فقيراً ، فلا تنهر السائل .
ويحتمل أن يُراد بالسائل سائل المال وسائل العلم ، حتى الذي يسأل العلم لا تنهره . بل الذي يسأل العلم القه بانشراح صدر ؛ لأنه لولا أنه محتاج ولولا أن عنده خوف الله عز وجل ما جاء يسأل ، فلا تنهر اللهم إلا من تعنت فهذا لا حرج أن تنهره .
لو كنت تخبره ثم يقول لكل شيء : لماذا هذا حرام ؟ ولماذا هذا حلال ؟ لماذا حرم الله الربا وأحل البيع ؟ لماذا حرم الله الأم من الرضاع ؟ وأشياء كثيرة من قبيل هذا . فهذا الذي يتعنت انهره ولا حرج أن تغضب عليه .
كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام حين تشاجر رجل من الأنصار والزبير بن العوام ، في الوادي حيث يأتي السيل ، وكان الزبير رضي الله عنه حائطه قبل حائط الأنصاري فتنازعا ؛ الأنصاري يقول للزبير : لا تحبس الماء عني والزبير يقول : أنا أعلى فأنا أحق ، فتشاجرا وتخاصما عند الرسول عليه الصلاة والسلام ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اسق يا زبير ثم أرسله إلى جارك ) ، وهذا حكم . فقال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ! كلمة لكن الغضب حمله عليها والعياذ بالله ، والزبير بن العوام بن صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول عليه الصلاة والسلام . قال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : ( اسق يا زبير حتى يصل إلى الجدر ثم أرسله إلى جارك )(48)
فالحاصل أن السائل للعلم لا تنهره ، بل تلقه بصدر رحب وعلّمه حتى يفهم ، خصوصاً في وقتنا الآن ، فكثير من الناس الآن يسألك وقلبه ليس معك . تجيبه بالسؤال ثم يفهمه خطأ ثم يذهب يقول للناس : أفتاني العالم الفلاني بكذا وكذا ، ولهذا ينبغي ألا تطلق الإنسان الذي يسألك حتى تعرف أنه عرف .
( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) نعمة الله عليك حدث بها ، قل الحمد لله ؛ رزقني الله علماً رزقني الله مالاً ، ورزقني الله ولداً وما أشبه ذلك .
والتحدث بنعمة الله نوعان : تحديث باللسان ، وتحديث بالأركان .
تحديث باللسان : كأن تقول : أنعم الله علي ؛ كنت فقيراً فأغناي الله ، كنت جاهلاً فعلمني الله ، وما أشبه ذلك.
والتحديث بالأركان : أن ترى أثر نعمة الله عليك ، فإن كنت غنياً فلا تلبس ثياب الفقراء بل البس ثياباً تليق بك ، وكذلك في المنزل ، وكذلك في المركوب ، في كل شيء دع الناس يعرفون نعمة الله عليك ، فإن هذا من التحديث بنعمة الله عز وجل ، ومن التحديث بنعمة الله عز وجل إذا كنت قد أعطاك الله علماً أن تحدث الناس به تعلم الناس ؛ لأن الناس محتاجون . وفقني الله والمسلمين لما يحب ويرضى .
وقال تعالى( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)[الماعون:1ـ3)
الـشـرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في سياق الآيات التي فيها الحث على الرفق باليتامى ونحوهم من الضعفاء، قال : وقال تعالى : ( أَرَأَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) .
( أَرَأَيْت ) يقول العلماء : إن معناها أخبرني ، يعني أخبرني عن حال هذا الرجل وماذا تكون . والدين : الجزاء ؛ يعني يكذب بالجزاء وباليوم الآخر ولا يصدق به ، وعلامة ذلك أنه يدع اليتيم يعني يدفعه بعنف وشدة و لا يرحمه .
( وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) أي : لا يحث الناس على طعام المسكين ، وهو بنفسه لا يفعله أيضاً ، ولا يطعم المساكين ، فحال هذا والعياذ بالله أسوأ حال ؛ لأنه لو كان يؤمن بيوم الدين حقيقة لرحم من أوصى الله برحمتهم ، وحض على طعام المسكين .
وفي سورة الفجر يقول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر: 17 ،18) ،وهذه أبلغ مما في سورة الماعون لأنه قال : ( لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) وإكرامه أكثر من الوقوف بدون إكرام ولا إهانة ، فاليتيم يجب أن يكرم .
وتأمل قوله : ( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) فالمسكين حظه الإطعام ودفع حاجته ، أما اليتيم فالإكرام . فإن كان غنياً فإنه يكرمه ليتمه ولا يطعم لغناه ، وإن كان فقيراً ـ أي اليتيم ـ فإنه يكرم ليتمه ويطعم لفقره ، ولكن أكثر الناس لا يبالون بهذا الشيء .
واعلم أن الرفق بالضعفاء واليتامى والصغار يجعل في القلب رحمة وليناً وعطفاً وإنابة إلى الله عز وجل ، لا يدركها إلا من جرب ذلك ، فالذي ينبغي لك أن ترحم الصغار وترحم الأيتام وترحم الفقراء ، حتى يكون في قلبك العطف والحنان والرحمة و ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) (49) .
نسأل الله أن يعمنا والمسلمين برحمته وفضله إنه كريم جواد .
الحمد لله رب العالمين
(1) أخرجه وكيع بن الحراح
في الزهد (3820)، والبيهقي في الشعب(2/387)، وأبو
نعيم في الحليه (2/97).
(48) رواه البخاري ، كتاب الشرب والمساقاة ، باب سكر الأنهار ، رقم ( 2360 ) ، ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ، رقم ( 2357)
(49) رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب . . ، رقم ( 1284 ) ، ومسلم كتاب الجنائز ، باب البكاء على الميت ، رقم ( 923 ) .
(48) رواه البخاري ، كتاب الشرب والمساقاة ، باب سكر الأنهار ، رقم ( 2360 ) ، ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ، رقم ( 2357)
(49) رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب . . ، رقم ( 1284 ) ، ومسلم كتاب الجنائز ، باب البكاء على الميت ، رقم ( 923 ) .
اللهُم إِرحَم
مَوتانا
مِن
المُسلِمين
وَإجمَعنا
بهِم
فيِ
جَنّات
النَعيمْ
.
تقبل الله
منا
ومنكم
صالح
الأعمال
لاتحرمنا التعليق
شرح مقدمة باب ملاطفة اليتيم والبنات من كتاب رياض الصالحين
Reviewed by احمد خليل
on
1:25:00 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: