باب ما جاء في الوتر
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني
باب ما جاء في الوتر
فتح الباري شرح صحيح البخاري: أَبْوَابُ الوِتْرِ،
بَابُ: مَا جَاءَ فِي الوِتْرِ.
٩٩٠- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
عَلَيْهِ السَّلاَمُ: «صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى
مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ
لَهُ مَا قَدْ صَلَّى».
الشرح:
(أبواب الوتر) كذا عند المستملي،
وعن الباقين "باب ما جاء في الوتر" وسقطت البسملة
عند ابن شبويه والأصيلي وكريمة. والوتر بالكسر الفرد،
وبالفتح الثأر، وفي لغة مترادفان. ولم يتعرض البخاري لحكمه لكن إفراده
بترجمة عن أبواب التهجد والتطوع يقتضي أنه غير ملحق بها عنده، ولولا أنه أورد
الحديث الذي فيه إيقاعه على الدابة إلا المكتوبة لكان في ذلك إشارة إلى أنه يقول بوجوبه.
أورد البخاري فيه ثلاثة أحاديث مرفوعة: حديث ابن عمر من وجهين،
وحديث ابن عباس، وحديث عائشة. فأما حديث ابن
عمر فأخرجه من الموطأ ولم يختلف على مالك في إسناده إلا أن في
رواية مكي بن إبراهيم عن مالك أن نافعا وعبد الله
بن دينار أخبراه كذا في الموطآت للدارقطني، وأورده الباقون بالعنعنة.
(فائدة): قال ابن التين: اختلف
في الوتر في سبعة أشياء: في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه، واختصاص بقراءة،
واشتراط شفع قبله، وفي آخر وقته، وصلاته في السفر على الدابة. قلت: وفي قضائه،
والقنوت فيه، وفي محل القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووصله، وهل تسن ركعتان
بعده، وفي صلاته من قعود. لكن هذا الأخير ينبني على كونه مندوبا أو لا. وقد
اختلفوا في أول وقته أيضا، وفي كونه أفضل صلاة التطوع، أو الرواتب أفضل منه، أو
خصوص ركعتي الفجر. وقد ترجم البخاري لبعض ما ذكرناه، ويأتي الكلام على
ما لم يترجم له أثناء الكلام على أحاديث الباب وما بعدها.
قوله: (أن رجلا) لم أقف على اسمه، ووقع
في المعجم الصغير للطبراني أن السائل هو ابن عمر، لكن يعكر عليه
رواية عبد الله بن شقيق عن ابن عمر" أن
رجلا سأل النبي ﷺ وأنا بينه وبين السائل" فذكر
الحديث، وفيه" ثم
سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه" قال: "فما أدري أهو ذلك
الرجل أو غيره" وعند النسائي من
هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية، وعند محمد بن نصر في
"كتاب أحكام الوتر" وهو كتاب نفيس في مجلده من
رواية عطية عن ابن عمر أن أعرابيا سأل، فيحتمل أن يجمع بتعدد
من سأل، وقد سبق في "باب الحلق في المسجد" أن السؤال المذكور وقع في
المسجد والنبي ﷺ على المنبر.
قوله: (عن صلاة الليل) في
رواية أيوب عن نافع (في باب الحلق في المسجد): "أن رجلا جاء
إلى النبي ﷺ وهو يخطب فقال: كيف صلاة الليل" ونحوه
في رواية سالم عن أبيه في أبواب التطوع، وقد تبين من الجواب أن السؤال
وقع عن عددها أو عن الفصل والوصل، وفي رواية محمد بن نصر من
طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "قال رجل:
يا رسول الله كيف تأمرنا أن نصلي من الليل" وأما
قول ابن بزيزة جوابه بقوله مثنى يدل على أنه فهم من السائل طلب كيفية
العدد لا مطلق الكيفية ففيه نظر، وأولى ما فسر به الحديث من الحديث، واستدل
بمفهومه على أن الأفضل في صلاة النهار أن تكون أربعا وهو عن الحنفية وإسحاق،
وتعقب بأنه مفهوم لقب وليس بحجة على الراجح، وعلى تقدير الأخذ به فليس بمنحصر في
أربع، وبأنه خرج جوابا للسؤال عن صلاة الليل فقيد الجواب بذلك مطابقة للسؤال،
وبأنه قد تبين عن رواية أخرى أن حكم المسكوت عنه حكم المنطوق به، ففي السنن
وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق على الأزدي عن ابن
عمر مرفوعا "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" وقد تعقب هذا
الأخير بأن أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله: "والنهار".
بأن الحفاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه وحكم النسائي على
راويها بأنه أخطأ فيها، وقال يحيى بن معين: عن عليّ
الأزدي حتى أقبل منه؟ وادعى يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع أن ابن
عمر كان يتطوع بالنهار أربعا لا يفصل بينهن، ولو كان حديث الأزدي صحيحا لما
خالفه ابن عمر، يعني: مع شدة اتباعه رواه عنه محمد بن نصر في
سؤالاته، لكن روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر قال: "صلاة الليل والنهار
مثنى مثنى" موقوف
أخرجه ابن عبد البر من طريقه، فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف
بالمرفوع فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون
شاذا، وقد روى ابن أبي شيبة عن وجه آخر عن ابن عمر أنه كان
يصلي بالنهار أربعا أربعا وهذا موافق لما نقله ابن معين.
قوله: «مثنى مثنى» أي: اثنين اثنين، وهو
غير منصرف لتكرار العدل فيه قاله صاحب الكشاف. وقال آخرون: للعدل والوصف، وأما
إعادة مثنى فللمبالغة في التأكيد، وقد فسره ابن عمر راوي الحديث
فعند مسلم عن طريق عقبة بن حريث قال قلت لابن عمر: ما
معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين. وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى
مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره به هو
المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلا إنها مثنى، واستدل بهذا على
تعين الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل، قال ابن دقيق العيد: وهو
ظاهر السياق لحصر المبتدأ في الخبر، وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل لما صح من
فعله ﷺ بخلافه، ولم يتعين أيضا كونه لذلك، بل
يحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام بين كل ركعتين أخف على المصلي من
الأربع فما فوقها لما فيه من الراحة غالبا وقضاء ما يعرض من أمر مهم، ولو كان
الوصل لبيان الجواز فقط لم يواظب عليه ﷺ، ومن
ادعى اختصاصه به فعليه البيان، وقد صح عنه ﷺ
الفصل كما صح عنه الوصل، فعند أبي داود ومحمد بن نصر من
طريقي الأوزاعي وابن أبي ذئب كلاهما
عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي ﷺ كان يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى
عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين وإسنادهما على شرط الشيخين، واستدل به أيضا على
عدم النقصان عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، قال ابن دقيق العيد: والاستدلال
به أقوى من الاستدلال بامتناع قصر الصبح في السفر إلى ركعة، يشير بذلك
إلى الطحاوي فإنه استدل على منع التنفل بركعة بذلك، واستدل بعض
الشافعية للجواز بعموم قوله ﷺ الصلاة خير
موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل صححه ابن حبان.
وقد اختلف السلف في الفصل والوصل في
صلاة الليل أيهما أفضل، وقال الأثرم عن أحمد: الذي
اختاره في صلاة الليل مثنى مثنى، فإن صلى بالنهار أربعا فلا بأس. وقال محمد
بن نصر نحوه في صلاة الليل قال: وقد صح عن النبي ﷺ
أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرها إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على الوصل،
إلا أنا نختار أن يسلم من كل ركعتين لكونه أجاب به السائل ولكون أحاديث الفصل أثبت
وأكثر طرقا، وقد تضمن كلامه الرد على الداودي الشارح ومن تبعه في دعواهم
أنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه صلى النافلة أكثر
من ركعتين ركعتين.
قوله: «فإذا خشي أحدكم الصبح» استدل به
على خروج وقت الوتر بطلوع الفجر، وأصرح منه ما رواه أبو
داود والنسائي وصححه أبو عوانة وغيره من طريق سليمان بن
موسى عن نافع أنه حدثه أن ابن عمر كان يقول" من صلى من الليل
فليجعل آخر صلاته وترا فإن رسول الله ﷺ كان
يأمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر" وفي
صحيح ابن خزيمة من طريق قتادة عن أبي
نضرة عن أبي سعيد مرفوعا "من أدركه الصبح ولم يوتر فلا
وتر له" وهذا محمول على التعمد أو على أنه لا يقع أداء، لما رواه من
حديث أبي سعيد أيضا مرفوعا "من نسي الوتر أو نام عنه فليصله
إذا ذكره" وقيل معنى قوله" إذا
خشي أحدكم الصبح -أي وهو في شفع- فلينصرف على وتر" وهذا ينبني على أن
الوتر لا يفتقر إلى نية. وحكى ابن المنذر عن جماعة من السلف أن الذي
يخرج بالفجر وقته الاختياري ويبقى وقت الضرورة إلى قيام صلاة الصبح،
وحكاه القرطبي عن مالك والشافعي وأحمد، وإنما
قاله الشافعي في القديم. وقال ابن قدامة: لا ينبغي لأحد
أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح، واختلف السلف في مشروعية قضائه فنفاه
الأكثر، وفي مسلم وغيره عن عائشة أنه ﷺ كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من
النهار ثنتي عشرة ركعة وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي ﷺ في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر ولا أمر بقضائه،
ومن زعم أنه ﷺ في ليلة نومهم عن الصبح في
الوادي قضى الوتر فلم يصب. وعن عطاء والأوزاعي: يقضي
ولو طلعت الشمس، وهو وجه عند الشافعية حكاه النووي في شرح مسلم،
وعن سعيد بن جبير: يقضي
من القابلة، وعن الشافعية: يقضي مطلقا، ويستدل لهم بحديث أبي
سعيد المتقدم، والله أعلم.
(فائدة): يؤخذ من سياق هذا الحديث أن ما بين
طلوع الفجر وطلوع الشمس من النهار شرعا، وقد روى ابن دريد في أماليه
بسند جيد أن الخليل بن أحمد سئل عن حد النهار فقال: من الفجر المستطير
إلى بداءة الشفق. وحكي عن الشعبي أنه وقت منفرد لا من الليل ولا من
النهار.
قوله: «صلى ركعة واحدة» في
رواية الشافعي وعبد الله بن وهب ومكي بن إبراهيم ثلاثتهم
عن مالك" فليصل
ركعة" أخرجه الدارقطني في الموطآت هكذا بصيغة الأمر، وسيأتي بصيغة
الأمر أيضا من طريق ابن عمر الثانية في هذا الباب، ولمسلم من
طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه مرفوعا نحوه،
واستدل بهذا على أنه لا صلاة بعد الوتر، وقد اختلف السلف في ذلك في موضعين:
أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس، والثاني فيمن أوتر ثم أراد أن
يتنفل في الليل هل يكتفي بوتره الأول وليتنفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم
يتنفل ثم إذا فعل ذلك هل يحتاج إلى وتر آخر أو لا؟ فأما الأول فوقع
عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه ﷺ كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس وقد ذهب
إليه بعض أهل العلم وجعلوا الأمر في قوله اجعلوا آخر صلاتكم من الليل
وترا مختصا بمن أوتر آخر الليل. وأجاب من لم يقل بذلك بأن الركعتين
المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه ﷺ فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر وجواز التنفل
جالسا. وأما
الثاني فذهب الأكثر إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره عملا بقوله ﷺ لا وتران في ليلة، وهو حديث حسن
أخرجه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث طلق بن علي. وإنما
يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر، وقد تقدم ما فيه.
وروى محمد بن نصر من طريق سعيد بن الحارث أنه سأل ابن
عمر عن ذلك فقال: إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صل ما بدا لك ثم أوتر،
وإلا فصل وترك على الذي كنت أوترت. ومن طريق أخرى عن ابن عمر أنه سئل عن
ذلك فقال: أما أنا فأصلي مثنى، فإذا انصرفت ركعت ركعة واحدة. فقيل: أرأيت إن أوترت
قبل أن أنام ثم قمت من الليل فشفعت حتى أصبح؟ قال: ليس بذلك بأس. واستدل بقوله ﷺ صل ركعة واحدة على أن فصل الوتر أفضل من وصله،
وتعقب بأنه ليس صريحا في الفصل، فيحتمل أن يريد بقوله صل ركعة واحدة أي
مضافة إلى ركعتين مما مضى.
واحتج بعض الحنفية لما ذهب إليه من تعيين
الوصل والاقتصار على ثلاث بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز،
واختلفوا فيما عداه، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه. وتعقبه محمد
بن نصر المروزي بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبي
هريرة مرفوعا وموقوفا" لا
توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب" وقد
صححه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي
سلمة والأعرج عن أبي هريرة مرفوعا نحوه، وإسناده على شرط الشيخين،
وقد صححه ابن حبان والحاكم، ومن طريق مقسم عن ابن
عباس وعائشة كراهية الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي أيضا.
وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر وقال: لا يشبه التطوع
الفريضة فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله. وأما قول محمد بن نصر: لم
نجد عن النبي ﷺ خبرا ثابتا صريحا أنه أوتر
بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث، لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أو مفصولة.
انتهى.
فيرد عليه ما رواه الحاكم من
حديث عائشة أنه كان ﷺ يوتر بثلاث لا
يقعد إلا في آخرهن. وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه،
ولفظه "يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله
أحد، ولا يسلم إلا في آخرهن" وبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث
ركعات، ويجاب عنه باحتمال أنهما لم يثبتا عنده، والجمع بين هذا وبين ما تقدم من
النهي عن التشبه بصلاة المغرب أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله
السلف أيضا، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان
ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن
مخرمة أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق ابن
طاوس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن، ومن طريق قيس بن
سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله،
وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم
أوتروا بثلاث كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور. وسيأتي في هذا الباب
قول القاسم بن محمد في تجويز الثلاث، ولكن النزاع في تعين ذلك فإن
الأخبار الصحيحة تأباه.
قوله: «توتر له ما قد صلى» استدل به على
أن الركعة الأخيرة هي الوتر وأن كل ما تقدمها شفع، وادعى بعض الحنفية أن هذا إنما
يشرع لمن طرقه الفجر قبل أن يوتر فيكتفي بواحدة لقوله: "فإذا خشي الصبح"
فيحتاج إلى دليل تعين الثلاث، وسنذكر ما فيه من رواية القاسم الآتية.
واستدل به على تعين الشفع قبل الوتر وهو عن المالكية بناء على أن قوله
"ما قد صلى" أي: من النفل. وحمله من لا يشترط سبق الشفع على ما هو أعم
من النفل والفرض وقالوا: إن سبق الشفع شرط في الكمال لا في الصحة، ويؤيده
حديث أبي أيوب مرفوعا" الوتر
حق، فمن شاء أوتر بخمس ومن شاء بثلاث ومن شاء بواحدة" أخرجه أبو
داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم، وصح عن جماعة من
الصحابة أنهم أوتروا بواحدة من غير تقدم نفل قبلها، ففي كتاب محمد بن
نصر وغيره بإسناد صحيح عن السائب بن يزيد أن عثمان قرأ
القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها، وسيأتي في المغازي حديث عبد الله بن
ثعلبة أن سعدا أوتر بركعة، وسيأتي في المناقب
عن معاوية أنه أوتر بركعة وأن ابن عباس استصوبه، وفي كل ذلك
رد على ابن التين في قوله: إن الفقهاء لم يأخذوا
بعمل معاوية في ذلك، وكأنه أراد فقهاءهم.
٩٩١- وَعَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي
الوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ.
الشرح:
قوله: (وعن نافع) هو
معطوف على الإسناد الأول، وهو في الموطأ كذلك إلا أنه ليس مقرونا في سياق واحد بل
بين المرفوع والموقوف عدة أحاديث، ولهذا فصله البخاري عنه.
قوله: (أن عبد الله بن عمر كان
يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته) ظاهره أنه كان يصلي
الوتر موصولا فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى، وفي هذا دفع لقول من قال:
لا يصح الوتر إلا مفصولا. وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور بإسناد
صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال: صلى ابن عمر ركعتين ثم
قال يا غلام أرحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة. وروى الطحاوي من
طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة،
وأخبر أن النبي ﷺ كان يفعله، وإسناده قوي. ولم
يعتذر الطحاوي عنه إلا باحتمال أن يكون المراد بقوله بتسليمة، أي:
التسليمة التي في التشهد ولا يخفى بعد هذا التأويل، والله أعلم.
٩٩٢- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ
كُرَيْبٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَهِيَ
خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ وِسَادَةٍ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ حَتَّى
انْتَصَفَ اللَّيْلُ -أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ- فَاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ
عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ،
فَتَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ،
فَقُمْتُ إِلَى جَنْبهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ
بِأُذُنِي يَفْتِلُهَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ المُؤَذِّنُ، فَقَامَ، فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ.
الشرح:
وأما حديث ابن عباس فقد تقدم
في عدة مواضع في العلم والطهارة والمساجد والإمامة وأحلت بشرحه على ما هنا. وقد
رواه عن ابن عباس جماعة منهم كريب وسعيد بن جبير وعليّ
بن عبد الله بن عباس وعطاء وطاوس والشعبي وطلحة بن
نافع ويحيى بن الجزار وأبو جمرة وغيرهم مطولا ومختصرا، وسأذكر ما
في طرقه من الفوائد ناسبا كل رواية إلى مخرجها إن شاء الله تعالى.
قوله: (أنه بات عند ميمونة) زاد شريك
بن أبي نمر عن كريب عند مسلم" فرقبت
رسول الله ﷺ كيف يصلي" زاد أبو
عوانة في صحيحه من هذا الوجه "بالليل"، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن
عباس قال "بعثني العباس إلى النبي ﷺ"
زاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن كريب" في إبل أعطاه إياها من
الصدقة" ولأبي عوانة من طريق عليّ بن عبد الله بن
عباس عن أبيه أن العباس بعثه إلى النبي ﷺ
في حاجة، قال: فوجدته جالسا في المسجد فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام
فركع حتى أذن بصلاة العشاء" ولابن
خزيمة من طريق طلحة بن نافع عنه
"كان رسول الله ﷺ
وعد العباس ذودا من الإبل، فبعثني إليه بعد العشاء وكان في
بيت ميمونة" وهذا
يخالف ما قبله، ويجمع بأنه لما لم يكلمه في المسجد أعاده إليه بعد العشاء إلى
بيت ميمونة، ولمحمد بن نصر في كتاب قيام الليل من طريق محمد
بن الوليد بن نويفع عن كريب عن الزيادة" فقال لي: يا بني بت
الليلة عندنا" وفي رواية حبيب المذكورة" فقلت:
لا أنام حتى أنظر ما يصنع في صلاة الليل" وفي
رواية مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن مخرمة" فقلت لميمونة: إذا
قام رسول الله ﷺ فأيقظيني" وكان
عزم في نفسه على السهر ليطلع على الكيفية التي أرادها، ثم خشي أن يغلب النوم
فوصى ميمونة أن توقظه.
قوله: (في عرض وسادة) في رواية محمد
بن الوليد المذكورة "وسادة من أدم حشوها ليف" وفي رواية طلحة
بن نافع المذكورة "ثم دخل مع امرأته في فراشها" وزاد أنها
"كانت ليلتئذ حائضا" وفي رواية شريك بن أبي
نمر عن كريب في التفسير" فتحدث
رسول الله ﷺ مع أهله ساعة" وقد
سبقت الإشارة إليه في كتاب العلم، وتقدم الكلام على الاضطجاع والعرض ومسح النوم
والعشر الآيات في "باب قراءة القرآن بعد الحدث" وكذا على الشن.
قوله: (حتى انتصف الليل أو قريبا منه)
جزم شريك بن أبي نمر في روايته المذكورة" بثلث
الليل الأخير" ويجمع
بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين: ففي الأولى نظر إلى السماء ثم تلا الآيات ثم عاد
لمضجعه فنام، وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى، وقد بين ذلك محمد بن
الوليد في روايته المذكورة. وفي رواية الثوري عن سلمة بن
كهيل عن كريب في الصحيحين فقام رسول الله ﷺ من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم نام، ثم
قام فأتى القربة الحديث. وفي رواية سعيد بن
مسروق عن سلمة عند مسلم ثم قام قومة أخرى وعنده من
رواية شعبة عن سلمة" فبال"
بدل فأتى حاجته.
قوله: (ثم قام إلى شن) زاد محمد بن
الوليد ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ.
قوله: (فأحسن الوضوء) في رواية محمد
بن الوليد وطلحة بن نافع جميعا فأسبغ الوضوء وفي
رواية عمرو بن دينار عن كريب فتوضأ وضوءا خفيفا وقد تقدمت
في "باب تخفيف الوضوء" ويجمع بين هاتين الروايتين
برواية الثوري فإن لفظه فتوضأ وضوءا بين وضوءين لم يكثر وقد
أبلغ ولمسلم من طريق عياض عن مخرمة فأسبغ الوضوء
ولم يمس من الماء إلا قليلا وزاد فيها "فتسوك" وكذا لشريك عن كريب" فاستن" كما تقدمت
الإشارة إليه قبيل كتاب الغسل.
قوله: (ثم قام يصلي) في رواية محمد
بن الوليد ثم أخذ بردا له حضرميا فتوشحه ثم دخل البيت فقام يصلي.
قوله: (فصنعت مثله) يقتضي أنه صنع جميع
ما ذكر من القول والنظر والوضوء والسواك والتوشح، ويحتمل أن يحمل على الأغلب، وزاد
سلمة عن كريب في الدعوات في أوله "فقمت فتمطيت كراهية أن يرى
أني كنت أرقبه" وكأنه خشي أن يترك بعض عمله لما جرى من عادته ﷺ أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته.
قوله: (وقمت إلى جنبه) تقدم الكلام عليه
في "أبواب الإمامة" مستوفى.
قوله: (وأخذ بأذني) زاد محمد بن
الوليد في روايته" فعرفت
أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل" وفي
رواية الضحاك عن عثمان فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة
أذني وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من
اليسار إلى اليمين متمسكا برواية سلمة بن كهيل الآتية في التفسير حيث
قال فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة
أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكره من تأنيسه وإيقاظه؛ لأن حاله كانت تقتضي ذلك
لصغر سنه.
قوله: (فصلى ركعتين ثم ركعتين) كذا في
هذه الرواية، وظاهره أنه فصل بين كل ركعتين، ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة
بن نافع حيث قال فيها" يسلم
من كل ركعتين" ولمسلم من
رواية عليّ بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضا وأنه استاك بين كل
ركعتين إلى غير ذلك. ثم إن رواية الباب فيها التصريح بذكر الركعتين ست مرات ثم قال:
"ثم أوتر"، ومقتضاه أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وصرح بذلك في
رواية سلمة الآتية في الدعوات حيث قال: "فتتامت"، ولمسلم: "فتكاملت
صلاته ثلاث عشرة ركعة"، وفي رواية عبد ربه بن سعيد الماضية في
الإمامة عن كريب فصلى ثلاث عشرة ركعة، وفي رواية محمد بن
الوليد المذكورة مثله وزاد" وركعتين
بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح" وهي موافقة لرواية الباب؛ لأنه قال بعد
قوله" ثم
أوتر: فقام فصلى ركعتين" فاتفق
هؤلاء على الثلاث عشرة، وصرح بعضهم بأن ركعتي الفجر من غيرها، لكن رواية شريك
بن أبي نمر الآتية في التفسير عن كريب تخالف ذلك ولفظه فصلى
إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فهذا ما في
رواية كريب من الاختلاف، وقد عرف أن الأكثر خالفوا شريكا فيها،
وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة ولكونهم أحفظ منه، وقد حمل بعضهم
هذه الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفى بعده ولا سيما في رواية مخرمة في
حديث الباب، إلا إن حمل على أنه أخر سنة العشاء حتى استيقظ، لكن يعكر عليه
رواية المنهال الآتية قريبا، وقد اختلف على سعيد بن
جبير أيضا: ففي التفسير من طريق شعبة عن الحكم عنه" فصلى أربع ركعات
ثم نام ثم صلى خمس ركعات" وقد
حمل محمد بن نصر هذه الأربع على أنها سنة العشاء لكونها وقعت
قبل النوم، لكن يعكر عليه ما رواه هو من طريق المنهال بن
عمرو عن عليّ بن عبد الله بن عباس فإن فيه" فصلى العشاء ثم
صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف" فإنه
يقتضي أن يكون صلى الأربع في المسجد لا في البيت، ورواية سعيد بن
جبير أيضا تقتضي الاقتصار على خمس ركعات بعد النوم وفيه نظر، وقد
رواها أبو داود من وجه آخر عن الحكم وفيه" فصلى سبعا أو
خمسا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن". وقد ظهر لي من رواية
أخرى عن سعيد بن جبير ما يرفع هذا الإشكال ويوضح أن
رواية الحكم وقع فيها تقصير، فعند النسائي من طريق يحيى
بن عباد بن سعيد بن جبير" فصلى
ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن"، فبهذا
يجمع بين رواية سعيد ورواية كريب، وأما ما وقع في
رواية عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عند أبي داود" فصلى ثلاث عشرة
ركعة منها ركعتا الفجر" فهو
نظير ما تقدم من الاختلاف في رواية كريب، وأما ما في روايتهما من الفصل
والوصل فرواية سعيد صريحة في الوصل، ورواية كريب محتملة فتحمل
على رواية سعيد. وأما
قوله في رواية طلحة بن نافع" يسلم
من كل ركعتين" فيحتمل تخصيصه بالثمان فيوافق رواية سعيد، ويؤيده
رواية يحيى بن الجزار الآتية، ولم أر في طرق حديث ابن عباس ما
يخالف ذلك؛ لأن أكثر الرواة عنه لم يذكروا عددا، ومن ذكر العدد منهم لم يزد على
ثلاث عشرة ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلا أن في رواية عليّ بن عبد الله بن
عباس عند مسلم ما يخالفهم فإن فيه فصلى ركعتين أطال فيهما ثم
انصرف فنام حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ
هؤلاء الآيات -يعني آخر آل عمران- ثم أوتر بثلاث فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة. انتهى.
فزاد على الرواة تكرار الوضوء وما معه
ونقص عنهم ركعتين أو أربعا ولم يذكر ركعتي الفجر أيضا، وأظن ذلك من الراوي
عنه حبيب بن أبي ثابت فإن فيه مقالا، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه
اختلافا تقدم ذكر بعضه، ويحتمل أن يكون لم يذكر الأربع الأول كما لم يذكر الحكم
الثمان كما تقدم، وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى عن عليّ بن عبد
الله عند أبي داود. والحاصل
أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء
بالجمع بين مختلف الروايات فيها، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ
أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم ولا سيما إن زاد أو نقص، والمحقق من عدد صلاته في
تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها سنة العشاء،
ووافق ذلك رواية أبي جمرة عن ابن عباس الآتية في صلاة الليل
بلفظ" كانت
صلاة النبي ﷺ ثلاث عشرة" يعني:
بالليل، ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا، وبينها يحيى بن
الجزار عن ابن عباس عند النسائي بلفظ
"كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح" ولا
يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق الباب فيمكن أن يجمل قوله: "صلى ركعتين ثم
ركعتين" أي:
قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء. وقوله "ثم ركعتين إلخ" أي: بعد أن قام.
وسيأتي نحو هذا الجمع في حديث عائشة في أبواب صلاة الليل إن شاء الله
تعالى، وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن
عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن
عباس به فيه وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملا، والله أعلم.
قوله: (ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام
فصلى ركعتين) تقدمت تسمية المؤذن قريبا، وسيأتي بيان الاختلاف في الاضطجاع هل كان
قبل ركعتي الفجر أو بعدها في أوائل أبواب التطوع.
قوله: (ثم خرج) أي: إلى المسجد (فصلى الصبح)
أي: بالجماعة، وزاد سلمة بن كهيل عن كريب هنا كما سيأتي في
الدعوات "وكان من دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورا" الحديث. وسيأتي
الكلام عليه في أول أبواب صلاة الليل إن شاء الله تعالى. وفي حديث ابن
عباس من الفوائد غير ما تقدم جواز إعطاء بني هاشم من الصدقة،
وهو محمول على التطوع، ويحتمل أن يكون إعطاؤه العباس ليتولى صرفه في
مصالح غيره ممن يحل له أخذ ذلك. وفيه جواز تقاضي الوعد وإن كان من وعد به مقطوعا بوفائه.
وفيه الملاطفة بالصغير والقريب والضيف، وحسن المعاشرة للأهل، والرد على
من يؤثر دوام الانقباض. وفيه مبيت الصغير عند محرمه وإن كان زوجها عندها،
وجواز الاضطجاع مع المرأة الحائض، وترك الاحتشام في ذلك بحضرة الصغير وإن كان
مميزا بل مراهقا. وفيه صحة صلاة الصبي وجواز فتل أذنه لتأنيسه وإيقاظه،
وقد قيل إن المتعلم إذ تعوهد بفتل أذنه كان أذكى لفهمه وفيه حمل أفعاله ﷺ على الاقتداء به ومشروعية التنفل بين المغرب
والعشاء، وفضل صلاة الليل ولا سيما في النصف الثاني، والبداءة بالسواك
واستحبابه عند كل وضوء وعند كل صلاة، وتلاوة آخر آل عمران عند القيام إلى
صلاة الليل، واستحباب غسل الوجه واليدين لمن أراد النوم وهو محدث،
ولعله المراد بالوضوء للجنب. وفيه
جواز الاغتراف من الماء القليل؛ لأن الإناء المذكور كان قصعة أو صحفة،
واستحباب التقليل من الماء في التطهير مع حصول الإسباغ، وجواز التصغير والذكر
بالصفة كما تقدم في باب السمر في العلم حيث قال "نام الغليم"،
وبيان فضل ابن عباس وقوة فهمه وحرصه على تعلم أمر الدين وحسن تأتيه
في ذلك. وفيه اتخاذ
مؤذن راتب للمسجد، وإعلام المؤذن الإمام بحضور وقت الصلاة، واستدعاؤه لها،
والاستعانة باليد في الصلاة وتكرار ذلك كما سيأتي البحث فيه في أواخر كتاب الصلاة.
وفيه مشروعية الجماعة في النافلة، والائتمام بمن لم ينو الإمامة،
وبيان موقف الإمام والمأموم، وقد تقدم كل ذلك في أبواب الإمامة والله المستعان.
واستدل به على أن الأحاديث الواردة في كراهية القرآن على غير وضوء ليست
على العموم في جميع الأحوال، وأجيب: بأن نومه كان لا ينقض وضوءه فلا يتم الاستدلال
به إلا أن يثبت أنه قرأ الآيات بين قضاء الحاجة والوضوء، والله أعلم. انتهى الكلام
على حديث ابن عباس.
٩٩٣- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ القَاسِمِ، حَدَّثَهُ عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «صَلاَةُ اللَّيْلِ
مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ، فَارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ
لَكَ مَا صَلَّيْتَ» قَالَ القَاسِمُ: وَرَأَيْنَا أُنَاسًا مُنْذُ
أَدْرَكْنَا يُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ، وَإِنَّ كُلًّا لَوَاسِعٌ أَرْجُو أَنْ لاَ
يَكُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَأْسٌ.
الشرح:
وأما طريق ابن
عمر الثانية فالقاسم المذكور في إسناده هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق،
وقوله فيه: "فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة" فيه دفع لقول من ادعى
أن الوتر بواحدة مختص بمن خشي طلوع الفجر؛ لأنه علقه بإرادة الانصراف وهو أعم من
أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك، وقوله فيه: "قال القاسم" هو
بالإسناد المذكور، كذلك أخرجه أبو نعيم في مستخرجه، ووهم من زعم أنه معلق.
وقوله فيه: "منذ أدركنا" أي: بلغنا الحلم أو عقلنا، وقوله" يوترون بثلاث
وأن كلا لواسع: يقتضي
أن القاسم فهم من قوله "فاركع ركعة" أي: منفردة منفصلة، ودل
ذلك على أنه لا فرق عنده بين الوصل والفصل في الوتر، والله أعلم.
٩٩٤- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ
عَائِشَةَ، أَخْبَرَتْه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاَتَهُ -تَعْنِي
بِاللَّيْلِ- فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ
خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ
صَلاَةِ الفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ
المُؤَذِّنُ لِلصَّلاَةِ.
الشرح:
وأما حديث عائشة فقد أعاده
المصنف إسنادا ومتنا في كتاب صلاة الليل، ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى،
وكأنه أراد بإيراده هنا أن لا معارضة بينه وبين حديث ابن عباس، إذ ظاهر
حديث ابن عباس فصل الوتر وهذا محتمل الأمرين، وقد
بين القاسم أن كلا من الأمرين واسع فشمل الفصل والوصل والاقتصار على
واحدة وأكثر، قال الكرماني: قوله
"وأن كلا" أي: وأن كل واحدة من الركعة والثلاث والخمس والسبع وغيرها جائز،
وأما تعيين الثلاث موصولة ومفصولة فلم يشمله كلامه؛ لأن المخالف من الحنفية يحمل
كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرا من الأحاديث ظاهر في الفصل
كحديث عائشة" يسلم
من كل ركعتين" فإنه
يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة فهو كالنص في موضع النزاع، وحمل الطحاوي هذا
ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي
عن البتيراء مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس
قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون الوصل أو الفصل، وصرح كثير منهم أن الفصل يقطعهما
عن أن يكونا من جملة الوتر، ومن خالفهم يقول إنهما منه بالنية. وبالله التوفيق،
والله أعلم.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا
ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: