باب موعظة الإمام النساء يوم العيد
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
العِيدَيْنِ، بَابُ: مَوْعِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ يَوْمَ العِيدِ.
٩٧٨- حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ ﷺ
يَوْمَ الفِطْرِ فَصَلَّى، فَبَدَأَ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ خَطَبَ، فَلَمَّا فَرَغَ
نَزَلَ، فَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَدِ
بِلاَلٍ، وَبِلاَلٌ بَاسِطٌ ثَوْبَهُ يُلْقِي فِيهِ النِّسَاءُ الصَّدَقَةَ. قُلْتُ
لِعَطَاءٍ: زَكَاةَ يَوْمِ الفِطْرِ، قَالَ: لاَ، وَلَكِنْ صَدَقَةً يَتَصَدَّقْنَ
حِينَئِذٍ، تُلْقِي فَتَخَهَا، وَيُلْقِينَ، قُلْتُ: أَتُرَى حَقًّا عَلَى
الإِمَامِ ذَلِكَ، وَيُذَكِّرُهُنَّ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَحَقٌّ عَلَيْهِمْ، وَمَا
لَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَهُ؟
الشرح:
قوله: (باب موعظة الإمام النساء يوم
العيد) أي: إذا لم يسمعن الخطبة مع الرجال.
قوله: (حدثني إسحاق بن إبراهيم بن
نصر) نسب
في رواية الأصيلي إلى جده فقال إسحاق بن نصر.
قوله: (ثم خطب، فلما فرغ نزل) فيه إشعار
بأنه ﷺ كان يخطب على مكان مرتفع لما يقتضيه
قوله "نزل" وقد تقدم في "باب الخروج إلى المصلى" أنه ﷺ كان يخطب في المصلى على الأرض، فلعل الراوي ضمن
النزول معنى الانتقال. وزعم عياض أن وعظه للنساء كان في أثناء الخطبة
وأن ذلك كان في أول الإسلام وأنه خاص به ﷺ،
وتعقبه النووي بهذه المصرحة بأن ذلك كان بعد الخطبة وهو قوله" فلما فرغ نزل
فأتى النساء" والخصائص
لا تثبت بالاحتمال.
قوله: (قلت لعطاء) القائل
هو ابن جريج، وهو موصول بالإسناد المذكور، وقد تقدم الحديث من وجه آخر
عن ابن جريج في "باب المشي" بدون هذه الزيادة. ودل هذا السؤال
على أن ابن جريج فهم من قوله "الصدقة" أنها صدقة الفطر بقرينة
كونها يوم الفطر وأخذ من قوله: "وبلال باسط ثوبه"؛ لأنه يشعر بأن
الذي يلقي فيه بشيء يحتاج إلى ضم فهو لائق بصدقة الفطر المقدرة بالكيل، لكن بين
له عطاء أنها كانت صدقة تطوع، وأنها كانت مما لا يجزئ في صدقة الفطر من
خاتم ونحوه.
قوله: (تلقي) أي: المرأة، والمراد جنس النساء،
ولذلك عطف عليه بصيغة الجمع فقال "ويلقين" أو المعنى تلقي الواحدة،
وكذلك الباقيات يلقين.
قوله: (فتخها) بفتح الفاء والمثناة من
فوق وبالخاء المعجمة كذا للأكثر، وللمستملي والحموي" فتختها" بالتأنيث،
وسيأتي تفسيره قريبا، وحذف مفعول يلقين اكتفاء، وكرر الفعل المذكور في
رواية مسلم إشارة إلى التنويع، وسيأتي في حديث ابن عباس بلفظ
"فيلقين الفتخ والخواتم".
قوله: (قلت) القائل أيضا ابن جريج،
والمسئول عطاء. وقوله:
"أنه لحق عليهم" ظاهره أن عطاء كان يرى وجوب ذلك، ولهذا
قال عياض: لم
يقل بذلك غيره. وأما النووي فحمله على الاستحباب. وقال: لا مانع من
القول به، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة.
٩٧٩- قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
وَأَخْبَرَنِي الحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: شَهِدْتُ الفِطْرَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ يُخْطَبُ بَعْدُ،
خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جَاءَ
النِّسَاءَ مَعَهُ بِلاَلٌ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: ١٢]
الآيَةَ، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ مِنْهَا: «آنْتُنَّ
عَلَى ذَلِكِ؟» قَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، لَمْ يُجِبْهُ
غَيْرُهَا: نَعَمْ، -لاَ يَدْرِي حَسَنٌ مَنْ هِيَ- قَالَ: «فَتَصَدَّقْنَ» فَبَسَطَ بِلاَلٌ ثَوْبَهُ، ثُمَّ
قَالَ: "هَلُمَّ، لَكُنَّ فِدَاءٌ أَبِي وَأُمِّي" فَيُلْقِينَ الفَتَخَ
وَالخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلاَلٍ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: الفَتَخُ:
الخَوَاتِيمُ العِظَامُ كَانَتْ فِي الجَاهِلِيَّةِ.
الشرح:
قوله: (قال ابن
جريج وأخبرني الحسن بن مسلم) هو معطوف على الإسناد
الأول وقد أفرد مسلم الحديث من طريق عبد الرزاق، وساق الثاني قبل
الأول فقدم حديث ابن عباس على حديث جابر، وقد تقدم من وجه آخر
عن ابن جريج مختصرا في "باب الخطبة".
قوله: (خرج النبي ﷺ) كذا فيه بغير أداة عطف، وسيأتي في "باب
تفسير الممتحنة" من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ" فنزل نبي الله ﷺ"، وكذا لمسلم من طريق عبد
الرزاق هذه، وقوله "ثم يخطب" بضم أوله على البناء للمجهول.
قوله: (حين يجلس) بتشديد اللام المكسورة،
وحذف مفعوله، وهو ثابت في رواية مسلم بلفظ" يجلس
الرجال بيده"، وكأنهم لما انتقل عن مكان خطبته أرادوا الانصراف فأمرهم
بالجلوس حتى يفرغ من حاجته ثم ينصرفوا جميعا، أو لعلهم أرادوا أن يتبعوه فمنعهم
فيقوى البحث الماضي في آخر الباب الذي قبله.
قوله: (فقالت امرأة واحدة منهن لم يجبه
غيرها: نعم) زاد مسلم" يا
نبي الله" وفيه دلالة على الاكتفاء في الجواب بنعم وتنزيلها منزلة الإقرار،
وأن جواب الواحد عن الجماعة كاف إذا لم ينكروا ولم يمنع مانع من إنكارهم.
قوله: (لا يدري حسن من هي) حسن هو
الراوي له عن طاوس ووقع في مسلم وحده "لا يدري
حينئذ" وجزم جمع من الحفاظ بأنه تصحيف، ووجهه النووي بأمر محتمل
لكن اتحاد المخرج دال على ترجيح رواية الجماعة ولا سيما وجود هذا الموضع في
مصنف عبد الرزاق الذي أخرجناه ﷺ من
طريقه في البخاري موافقا لرواية الجماعة. والفرق بين الروايتين أن في
رواية الجماعة تعيين الذي لم يدر من المرأة، بخلاف رواية مسلم. ولم
أقف على تسمية هذه المرأة، إلا أنه يختلج في خاطري أنها أسماء بنت يزيد بن
السكن التي تعرف بخطيبة النساء، فإنها روت أصل هذه القصة في حديث
أخرجه البيهقي والطبراني وغيرهما من طريق شهر بن
حوشب عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله ﷺ
خرج إلى النساء وأنا معهن فقال: يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم. فناديت رسول
الله ﷺ وكنت عليه جريئة: لم يا رسول الله؟ قال:
لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير الحديث، فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته
أولا بنعم، فإن القصة واحدة، فلعل بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر كما في نظائره،
والله أعلم. وقد روى الطبراني من وجه آخر عن أم سلمة الأنصارية- وهي أسماء المذكورة-
أنها كانت في النسوة اللاتي أخذ عليهن رسول الله ﷺ
ما أخذ الحديث، ولابن سعد من حديثها" أخذ
علينا رسول الله ﷺ أن لا نشرك بالله شيئا ولا
نسرق" الحديث.
قوله: «قال فتصدقن» هو فعل أمر لهن
بالصدقة والفاء سببية أو داخلة على جواب شرط محذوف تقديره إن كنتن على ذلك فتصدقن،
ومناسبته للآية من قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: ١٢] فإن ذلك من جملة المعروف الذي أمرن به.
قوله: (ثم قال: هلم) القائل هو بلال،
وهو على اللغة الفصحى في التعبير بها للمفرد والجمع.
قوله: (لكن) بضم الكاف وتشديد النون،
وقوله "فدا" بكسر الفاء والقصر.
قوله: (قال عبد الرزاق: الفتخ
الخواتيم العظام كانت في الجاهلية) لم يذكر عبد الرزاق في أي شيء كانت تلبس،
وقد ذكر ثعلب أنهن يلبسنها في أصابع الأرجل، اهـ. ولهذا عطف عليها
الخواتيم؛ لأنها عند الإطلاق تنصرف إلى ما يلبس في الأيدي، وقد وقع في بعض طرقه
عند مسلم هنا ذكر الخلاخيل، وحكي عن الأصمعي أن الفتخ
الخواتيم التي لا فصوص لها، فعلى هذا هو من عطف الأعم على الأخص.
وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا
استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن،
ويستحب حثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمن
الفتنة والمفسدة. وفيه خروج النساء إلى المصلى كما سيأتي في الباب الذي بعده.
وفيه جواز التفدية بالأب والأم، وملاطفة العامل على الصدقة بمن يدفعها إليه. واستدل
به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها أو على
مقدار معين من مالها كالثلث خلافا لبعض المالكية ووجه الدلالة من القصة ترك
الاستفصال عن ذلك كله. قال القرطبي: ولا يقال في هذا إن
أزواجهن كانوا حضورا؛ لأن ذلك لم ينقل ولو نقل فليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك؛
لأن من ثبت له الحق فالأصل بقاؤه حتى يصرح بإسقاطه ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك،
اهـ.
وأما كونه من الثلث فما دونه فإن ثبت
أنهن لا يجوز لهن التصرف فيما زاد على الثلث لم يكن في هذه القصة ما يدل على جواز الزيادة،
وفيه أن الصدقة من دوافع العذاب؛ لأنه أمرهن بالصدقة ثم علل بأنهن أكثر أهل النار
لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك كما تقدم في كتاب الحيض من حديث أبي سعيد. ووقع
نحوه عند مسلم من وجه آخر في حديث جابر، وعند البيهقي من
حديث أسماء بنت يزيد كما تقدمت الإشارة إليه. وفيه بذل النصيحة
والإغلاظ بها لمن احتيج في حقه إلى ذلك، والعناية بذكر ما يحتاج إليه لتلاوة آية
الممتحنة لكونها خاصة بالنساء. وفيه جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين
ولو كان الطالب غير محتاج، وأخذ منه الصوفية جواز ما اصطلحوا عليه من الطلب، ولا
يخفى ما يشترط فيه من أن المطلوب له أيكون غير قادر على التكسب مطلقا أو لما لا بد
له منه. وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن مع ضيق الحال في
ذلك الوقت دلالة على رفيع مقامهن في الدين وحرصهن على امتثال أمر الرسول ﷺ ورضي عنهن، وقد تقدمت بقية فوائد هذا الحديث في "كتاب
الحيض".
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: