باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
الجُمُعَةِ، بَابُ هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ
النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا الغُسْلُ
عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الجُمُعَةُ.
٨٩٤- حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ».
٨٩٥- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ ﷺ قَالَ: «غُسْلُ
يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».
الشرح:
قوله: (باب هل على من لم يشهد
الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم) تقدم التنبيه على ما تضمنته هذه
الترجمة في "باب فضل الغسل" ويدخل في قوله "وغيرهم" العبد
والمسافر والمعذور، وكأنه استعمل الاستفهام في الترجمة للاحتمال الواقع في
حديث أبي هريرة" حق
على كل مسلم أن يغتسل" فإنه
شامل للجميع، والتقييد في حديث ابن عمر بمن جاء منكم يخرج من لم يجئ،
والتقييد في حديث أبي سعيد بالمحتلم يخرج الصبيان، والتقييد في النهي عن
منع النساء المساجد بالليل يخرج الجمعة. وعرف بهذا وجه إيراد هذه الأحاديث في هذه الترجمة،
وقد تقدم الكلام على أكثرها.
قوله: (وقال ابن عمر إنما
الغسل على من تجب عليه الجمعة) وصله البيهقي بإسناد
صحيح عنه وزاد "والجمعة على من يأتي أهله" ومعنى هذه الزيادة أن
الجمعة تجب عنده على من يمكنه الرجوع إلى موضعه قبل دخول الليل، فمن كان فوق هذه
المسافة لا تجب عليه عنده، وسيأتي البحث فيه بعد باب. وقد تقرر أن الآثار التي
يوردها البخاري في التراجم تدل على اختيار ما تضمنته عنده، فهذا مصير
منه إلى أن الغسل للجمعة لا يشرع إلا لمن وجبت عليه.
٨٩٦- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَحْنُ الآخِرُونَ
السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا
وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا اليَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ،
فَهَدَانَا اللَّهُ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى»
فَسَكَتَ.
٨٩٧- ثُمَّ قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ
سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ».
٨٩٨- رَوَاهُ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لِلَّهِ تَعَالَى
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا».
الشرح:
قوله في حديث أبي هريرة: (فسكت
ثم قال: «حق على كل مسلم إلخ») فاعل "سكت" هو النبي ﷺ، فقد أورده المصنف في ذكر بني
إسرائيل من وجه آخر عن وهيب بهذا الإسناد دون قوله "فسكت"،
ثم قال ويؤكد كونه مرفوعا رواية مجاهد عن طاوس المقتصرة على
الحديث الثاني، ولهذه النكتة أورده بعده فقال "رواه أبان بن
صالح إلخ" وكذا أخرجه مسلم من وجه آخر
عن وهيب مقتصرا، وهذا التعليق عن مجاهد قد
وصله البيهقي من طريق سعيد بن أبي
هلال عن أبان المذكور، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر
عن طاوس وصرح فيه بسماعه له من أبي هريرة، أخرجه من طريق عمرو
بن دينار عن طاوس وزاد فيه ويمس طيبا إن كان
لأهله واستدل بقوله" لله
على كل مسلم حق" للقائل
بالوجوب، وقد تقدم البحث فيه.
قوله: «في كل سبعة أيام يوما» هكذا أبهم
في هذه الطريق، وقد عينه جابر في حديثه عند النسائي بلفظ
"الغسل واجب على كل مسلم في أسبوع يوما وهو يوم الجمعة" وصححه ابن
خزيمة. ولسعيد
بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة من حديث البراء بن عازب مرفوعا
نحوه ولفظه" إن
من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة" الحديث،
ونحوه للطحاوي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من
الصحابة أنصاري مرفوعا.
٨٩٩- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «ائْذَنُوا
لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى المَسَاجِدِ».
الشرح:
قوله: (عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي ﷺ: «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد») هكذا ذكره
مختصرًا وأورده مسلم من طريق مجاهد عن ابن عمر مطولًا وقد تقدم ذكره في "باب
خروج النساء إلى المساجد" وهو قبيل "كتاب الجمعة"، وتقدم هناك ما
يتعلق به مطولًا.
وقوله: «بالليل» فيه إشارة إلى أنهم ما
كانوا يمنعونهن بالنهار؛ لأن الليل مظنة الريبة ولأجل ذلك قال ابن عبد الله بن
عمر: (لا نأذن لهن يتخذنه دغلًا) كما تقدم ذكره من عند مسلم. وقال الكرماني: عادة
البخاري إذا ترجم بشيء ذكر ما يتعلق به وما يناسب التعلق فلذلك أورد حديث ابن عمر
هذا في ترجمة (هل على من لم يشهد الجمعة غسل) قال فإن قيل مفهوم التقييد بالليل
يمنع النهار والجمعة نهارية. وأجاب: بأنه من مفهوم الموافقة؛ لأنه إذا أذن لهن
بالليل مع أن الليل مظنة الريبة فالإذن بالنهار بطريق الأولى، وقد عكس هذا بعض
الحنفية فجرى على ظاهر الخبر فقال التقييد بالليل لكون الفساق فيه في شغل بفسقهم
أو نومهم بخلاف النهار فإنهم ينتشرون فيه وهذا وإن كان ممكنًا، لكن مظنة الريبة في
الليل أشد وليس لكلهم في الليل ما يجد ما يشتغل به، وأما النهار فالغالب أنه
يفضحهم غالبًا ويصدهم عن التعرض لهن ظاهرًا لكثرة انتشار الناس فيه، ورؤية من
يتعرض فيه لما لا يحل له فينكر عليه، والله أعلم.
٩٠٠- حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى،
حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ
الصُّبْحِ وَالعِشَاءِ فِي الجَمَاعَةِ فِي المَسْجِدِ، فَقِيلَ لَهَا: لِمَ
تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟ قَالَتْ:
وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «لاَ تَمْنَعُوا
إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ».
الشرح:
قوله في
رواية نافع عن ابن عمر: (قال كانت امرأة لعمر) هي عاتكة
بنت زيد بن عمرو بن نفيل أخت سعيد بن زيد أحد العشرة مما
سماها الزهري فيما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه،
قال " كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عمر بن الخطاب،
وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: "والله إنك لتعلمين
أني ما أحب هذا". قالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني، قال: فلقد
طعن عمر وإنها لفي المسجد " كذا ذكره مرسلا، ووصله عبد
الأعلى عن معمر بذكر سالم بن عبد الله عن أبيه، لكن أبهم
المرأة. أخرجه أحمد عنه، وسماها أحمد من وجه آخر
عن سالم قال " كان عمر رجلا غيورا وكان إذا خرج إلى
الصلاة اتبعته عاتكة بنت زيد" الحديث، وهو مرسل أيضا،
وعرف من هذا أن قوله في حديث الباب "فقيل: لها لم تخرجين إلخ" أن قائل
ذلك كله هو عمر بن الخطاب، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقوله:
"إن عمر إلخ" فيكون من باب التجريد أو الالتفات، وعلى هذا
فالحديث من مسند عمر كما صرح به في رواية سالم المرسلة،
ويحتمل أن تكون المخاطبة دارت بينها وبين ابن عمر أيضا؛ لأن الحديث
مشهور من روايته، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقيل لها إلخ، وهذا مقتضى ما
صنع الحميدي وأصحاب الأطراف، فإنهم أخرجوا هذا الحديث من هذا الوجه في
مسند ابن عمر، وقد تقدم الكلام على فوائده مستوفى قبيل كتاب الجمعة.
(تنبيه): قال الإسماعيلي: أورد البخاري حديث مجاهد عن ابن
عمر بلفظ "ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد" وأراد بذلك
أن الإذن إنما وقع لهن بالليل فلا تدخل فيه الجمعة. قال: ورواية أبي
أسامة التي أوردها بعد ذلك تدل على خلاف ذلك، يعني: قوله فيها "لا
تمنعوا إماء الله مساجد الله" انتهى. والذي يظهر أنه جنح إلى أن هذا
المطلق يحمل على ذلك المقيد. والله أعلم.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: