باب الذكر بعد الصلاة
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
فتح الباري شرح صحيح البخاري: كِتَابُ
أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلاَةِ بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ.
٨٤١- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ:
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَفْعَ
الصَّوْتِ، بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى
عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ.
الشرح:
قوله: (باب الذكر بعد الصلاة) أورد
فيه أولا حديث ابن عباس من وجهين أحدهما أتم من الآخر، وأغرب المزي فجعلهما
حديثين، والذي يظهر أنهما حديث واحد كما سنبينه.
قوله: (أخبرني عمرو) هو
ابن دينار المكي.
قوله: (كان على عهد رسول الله ﷺ) فيه أن مثل هذا عند البخاري يحكم له
بالرفع خلافا لمن شذ ومنع ذلك، وقد وافقه مسلم والجمهور على ذلك، وفيه
دليل على جواز الجهر بالذكر عقب الصلاة قال الطبري: فيه
الإبانة عن صحة ما كان يفعله بعض الأمراء من التكبير عقب الصلاة، وتعقبه ابن
بطال بأنه لم يقف على ذلك عن أحد من السلف إلا ما حكاه ابن حبيب في
"الواضحة" أنهم كانوا يستحبون التكبير في العساكر عقب الصبح والعشاء
تكبيرا عاليا ثلاثا، قال: وهو قديم من شأن الناس.
قال ابن بطال: وفي
"العتبية" عن مالك أن ذلك محدث. قال: وفي السياق إشعار بأن
الصحابة لم يكونوا يرفعون أصواتهم بالذكر في الوقت الذي قال فيه ابن
عباس ما قال. قلت: في التقييد بالصحابة نظر، بل لم يكن حينئذ من الصحابة إلا
القليل، وقال النووي: حمل الشافعي هذا
الحديث على أنهم جهروا به وقتا يسيرا لأجل تعليم صفة الذكر، لا أنهم داوموا على
الجهر به، والمختار أن الإمام والمأموم يخفيان الذكر إلا إن احتيج إلى التعليم.
قوله: (وقال ابن عباس) هو
موصول بالإسناد المبدأ به كما في رواية مسلم عن إسحاق بن
منصور عن عبد الرزاق به.
قوله: (كنت أعلم) فيه إطلاق العلم على
الأمر المستند إلى الظن الغالب.
قوله: (إذا انصرفوا) أي: أعلم انصرافهم
بذلك، أي: برفع الصوت إذا سمعته، أي: الذكر، والمعنى كنت أعلم بسماع الذكر
انصرافهم.
٨٤٢- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: أَخْبَرَنِي
أَبُو مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنْتُ
أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاَةِ النَّبِيِّ ﷺ
بِالتَّكْبِير.
قَالَ عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ أَبُو مَعْبَدٍ أَصْدَقَ مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ عَلِيٌّ: وَاسْمُهُ نَافِذٌ.
الشرح:
قوله: (كنت أعرف انقضاء صلاة النبي ﷺ بالتكبير) وقع في
رواية الحميدي عن سفيان بصيغة الحصر، ولفظه "ما كنا نعرف
انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير"
وكذا أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان، واختلف في
كون ابن عباس قال ذلك، فقال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر
الجماعة لأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على ذلك ولا يلزم به، فكان يعرف
انقضاء الصلاة بما ذكر. وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف فكان
لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ
منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد.
قوله: (بالتكبير) هو أخص من
رواية ابن جريج التي قبلها؛ لأن الذكر أعم من التكبير، ويحتمل أن تكون
هذه مفسرة لذلك فكان المراد أن رفع الصوت بالذكر، أي: بالتكبير، وكأنهم كانوا
يبدءون بالتكبير بعد الصلاة قبل التسبيح والتحميد، وسيأتي الكلام على ذلك في
الحديث الذي بعده.
قوله: (قال عليّ) هو
ابن المديني المذكور وثبتت هذه الزيادة في رواية المستملي والكشميهني،
وزاد مسلم في روايته المذكورة "قال عمرو -يعني ابن دينار- وذكرت ذلك لأبي
معبد بعد فأنكره وقال: لم أحدثك بهذا. قال عمرو: قد
أخبرتنيه قبل ذلك" قال الشافعي بعد أن رواه
عن سفيان كأنه نسيه بعد أن حدثه به. انتهى.
وهذا يدل على أن مسلما كان يرى
صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلا، ولأهل الحديث فيه تفصيل:
قالوا إما أن يجزم برده أو لا، وإذا جزم فإما أن يصرح بتكذيب الراوي عنه أو لا فإن
لم يجزم بالرد كأن قال لا أذكره فهو متفق عندهم على قبوله؛ لأن الفرع ثقة والأصل
لم يطعن فيه، وإن جزم وصرح بالتكذيب فهو متفق عندهم على رده؛ لأن جزم الفرع بكون
الأصل حدثه يستلزم تكذيب الأصل في دعواه أنه كذب عليه، وليس قبول قول أحدهما بأولى
من الآخر، وإن جزم بالرد ولم يصرح بالتكذيب فالراجح عندهم قبوله. وأما الفقهاء فاختلفوا:
فذهب الجمهور في هذه الصورة إلى القبول، وعن بعض الحنفية ورواية
عن أحمد لا يقبل قياسا على الشاهد، وللإمام فخر الدين في هذه
المسألة تفصيل نحو ما تقدم وزاد. فإن كان الفرع مترددا في سماعه والأصل جازما
بعدمه سقط لوجود التعارض، ومحصل كلامه آنفا أنهما إن تساويا فالرد، وإن رجح أحدهما
عمل به، وهذا الحديث من أمثلته، وأبعد من قال إنما نفى أبو معبد التحديث
ولا يلزم منه نفي الإخبار، وهو الذي وقع من عمرو ولا مخالفة، وترده
الرواية التي فيها "فأنكره" ولو كان كما زعم لم يكن هناك إنكار؛ ولأن
الفرق بين التحديث والإخبار إنما حدث بعد ذلك، وفي كتب الأصول حكاية الخلاف في هذه
المسألة عن الحنفية.
٨٤٣- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ
الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا:
ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلاَ، وَالنَّعِيمِ
المُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ
فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ،
وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: «أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ إِنْ
أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ،
وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ
مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ
ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ»، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا:
نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنُكَبِّرُ
أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «تَقُولُ:
سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ
مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ».
الشرح:
قوله: (عن عبيد الله) هو
ابن عمر العمري، وسمي هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن وهما
مدنيان، وعبيد الله تابعي صغير، ولم أقف لسمي على رواية عن أحد من
الصحابة فهو من رواية الكبير عن الصغير، وهما مدنيان وكذا أبو صالح.
قوله: (جاء الفقراء) سمي منهم في
رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة "أبو ذر الغفاري" أخرجه أبو
داود وأخرجه جعفر الفريابي في كتاب الذكر له من حديث أبي
ذر نفسه، وسمي منهم "أبو الدرداء" عند النسائي وغيره
من طرق عنه، ولمسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه
عن أبي هريرة أنهم قالوا: "يا رسول الله" فذكر الحديث،
والظاهر أن أبا هريرة منهم. وفي رواية النسائي عن زيد بن
ثابت قال " أمرنا
أن نسبح" الحديث كما سيأتي لفظه، وهذا يمكن أن يقال فيه إن زيد بن
ثابت كان منهم، ولا يعارضه قوله
في رواية ابن عجلان عن سمي عند مسلم: "جاء فقراء
المهاجرين" لكون زيد بن ثابت من الأنصار لاحتمال التغليب.
قوله: (الدثور) بضم المهملة والمثلثة جمع
دثر بفتح ثم سكون هو المال الكثير، و "من" في قوله "من
الأموال" للبيان، ووقع عند الخطابي" ذهب
أهل الدور من الأموال" وقال:
كذا وقع الدور جمع دار والصواب الدثور. انتهى. وذكر صاحب المطالع عن
رواية أبي زيد المروزي أيضا الدور.
قوله: (بالدرجات العلى) بضم العين جمع
العلياء وهي تأنيث الأعلى، ويحتمل أن تكون حسية، والمراد درجات الجنات، أو معنوية
والمراد علو القدر عند الله.
قوله: (والنعيم المقيم) وصفه بالإقامة
إشارة إلى ضده وهو النعيم العاجل، فإنه قل ما يصفو، وإن صفا فهو بصدد الزوال. وفي
رواية محمد بن أبي عائشة المذكورة ذهب أصحاب الدثور
بالأجور وكذا لمسلم من حديث أبي ذر، زاد المصنف في الدعوات من
رواية ورقاء عن سمي قال كيف ذلك ونحوه لمسلم من
رواية ابن عجلان عن سمي.
قوله: (ويصومون كما نصوم) زاد في
حديث أبي الدرداء المذكور" ويذكرون
كما نذكر" وللبزار من
حديث ابن عمر" صدقوا
تصديقنا، وآمنوا إيماننا".
قوله: (ولهم فضل أموال) كذا للأكثر بالإضافة،
وفي رواية الأصيلي" فضل
الأموال" وللكشميهني" فضل من أموال".
قوله: (يحجون بها) أي: ولا نحج، يشكل
عليه ما وقع في رواية جعفر الفريابي من حديث أبي الدرداء: "ويحجون
كما نحج" ونظيره
ما وقع هنا "ويجاهدون" ووقع في الدعوات من
رواية ورقاء عن سمي: "وجاهدوا كما جاهدنا" لكن
الجواب عن هذا الثاني ظاهر وهو التفرقة بين الجهاد الماضي فهو الذي اشتركوا فيه
وبين الجهاد المتوقع فهو الذي تقدر عليه أصحاب الأموال غالبا. ويمكن أن يقال مثله
في الحج، ويحتمل أن يقرأ "يحجون بها" بضم أوله من الرباعي، أي: يعينون
غيرهم على الحج بالمال.
قوله: (ويتصدقون) عند مسلم من
رواية ابن عجلان عن سمي: "ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا
نعتق".
قوله: (فقال: «ألا أحدثكم بما إن أخذتم
به») في رواية الأصيلي: "بأمر إن أخذتم" وكذا للإسماعيلي،
وسقط قوله: "بما" من أكثر الروايات، وكذا قوله "به" وقد فسر
الساقط في الرواية الأخرى، وفي رواية مسلم: "أفلا أعلمكم شيئا" وفي
رواية أبي داود فقال يا أبا ذر، ألا أعلمك كلمات تقولهن.
قوله: «أدركتم من سبقكم» أي: من أهل
الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة، والسبقية هنا يحتمل أن تكون معنوية وأن تكون
حسية، قال الشيخ تقي الدين: والأول أقرب وسقط قوله "من سبقكم" من رواية الأصيلي.
قوله: «وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم»
بفتح النون وسكون التحتانية، وفي رواية كريمة وأبي الوقت ظهرانيه بالإفراد،
وكذا للإسماعيلي. وعند مسلم من
رواية ابن عجلان ولا يكون أحد أفضل منكم قيل ظاهره يخالف ما سبق؛
لأن الإدراك ظاهره المساواة، وهذا ظاهره الأفضلية. وأجاب بعضهم بأن الإدراك لا
يلزم منه المساواة فقد يدرك ثم يفوق، وعلى هذا فالتقرب بهذا الذكر راجح على التقرب
بالمال.
ويحتمل أن يقال: الضمير في كنتم للمجموع
من السابق والمدرك، وكذا قوله إلا من عمل مثل عملكم، أي: من الفقراء
فقال الذكر، أو من الأغنياء فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصة لكن يشاركهم الأغنياء
في الخيرية المذكورة فيكون كل من الصنفين خيرا ممن لا يتقرب بذكر ولا صدقة، ويشهد
له قوله في حديث ابن عمر عند البزار أدركتم مثل
فضلهم ولمسلم في حديث أبي ذر أوليس قد جعل لكم ما تتصدقون؟ إن بكل
تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة الحديث. واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل
التقرب بالمال مع شدة المشقة فيه، وأجاب الكرماني بأنه لا يلزم أن يكون
الثواب على قدر المشقة في كل حالة، واستدل لذلك بفضل كلمة الشهادة مع سهولتها على
كثير من العبادات الشاقة.
قوله: «وتسبحون وتحمدون وتكبرون» كذا وقع
في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير، وفي
رواية ابن عجلان تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفيه أيضا
قول أبي صالح يقول: "الله أكبر وسبحان الله والحمد لله" ومثله لأبي
داود من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة تكبر وتحمد
وتسبح وكذا في حديث ابن عمر. وهذا الاختلاف دال على
أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث الباقيات الصالحات "لا
يضرك بأيهن بدأت" لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح؛ لأنه
يتضمن نفي النقائض عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له،
إذ لا يلزم من نفي النقائض إثبات الكمال. ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائض
وإثبات الكمال أن يكون هنا كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه
وتعالى، بجميع ذلك.
قوله: «خلف كل صلاة» هذه الرواية مفسرة
للرواية التي عند المصنف في الدعوات وهي قوله "دبر كل صلاة "ولجعفر
الفريابي في حديث أبي ذر "أثر كل صلاة"، وأما رواية
"دبر" فهي بضمتين، قال الأزهري: دبر الأمر، يعني:
بضمتين. ودبره، يعني: بفتح ثم سكون: آخره. وادعى أبو عمرو الزاهد أنه لا
يقال بالضم إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم أعتق غلامه عن دبر، ومقتضى الحديث أن
الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ فإن كان يسيرا
بحيث لا يعد معرضا أو كان ناسيا أو متشاغلا بما ورد أيضا بعد الصلاة كآية الكرسي
فلا يضر، وظاهر قوله "كل صلاة" يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر
العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن
عجرة عند مسلم التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها،
وعلى هذا هل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلا بين المكتوبة والذكر
أو لا؟ محل النظر، والله أعلم.
قوله: «ثلاثا وثلاثين» يحتمل أن يكون
المجموع للجميع فإذا وزع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن أبي
صالح كما رواه مسلم من طريق روح بن القاسم عنه، لكن لم
يتابع سهيل على ذلك، بل لم أر في شيء من طرق الحديث كلها التصريح بإحدى
عشرة إلا في حديث ابن عمر عند البزار وإسناده
ضعيف، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد، فعلى هذا ففيه تنازع أفعال في
ظرف ومصدر والتقدير تسبحون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدون وتكبرون كذلك.
قوله: (فاختلفنا بيننا) ظاهره
أن أبا هريرة هو القائل، وكذا قوله "فرجعت إليه" وأن الذي
رجع أبو هريرة إليه هو النبي ﷺ وعلى
هذا فالخلاف في ذلك وقع بين الصحابة، لكن بين مسلم في رواية ابن
عجلان عن سمي أن القائل "فاختلفنا" هو سمي، وأنه هو
الذي رجع إلى أبي صالح، وأن الذي خالفه بعض أهله ولفظه "قال سمي: فحدثت
بعض أهل هذا الحديث، قال: وهمت، فذكر كلامه. قال: فرجعت إلى أبي صالح"، وعلى
رواية مسلم اقتصر صاحب العمدة، لكن لم يوصل مسلم هذه الزيادة،
فإنه أخرج الحديث عن قتيبة عن الليث عن ابن
عجلان ثم قال: زاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث، فذكرها.
والغير المذكور يحتمل أن يكون شعيب بن الليث أو سعيد بن أبي مريم،
فقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه عن الربيع بن
سليمان عن شعيب، وأخرجه الجوزقي والبيهقي من
طريق سعيد، وتبين بهذا أن في رواية عبيد الله بن
عمر عن سمي في حديث الباب إدراجا، وقد روى ابن حبان هذا
الحديث من طريق المعتمر بن سليمان بالإسناد المذكور فلم يذكر قوله
"فاختلفنا إلخ".
قوله: (ونكبر أربعا وثلاثين) هو قول بعض
أهل سمي كما تقدم التنبيه عليه من رواية مسلم، وقد تقدم احتمال
كونه من كلام بعض الصحابة، وقد جاء مثله في حديث أبي
الدرداء عند النسائي، وكذا عنده من حديث ابن عمر بسند قوي،
ومثله لمسلم من حديث كعب بن عجرة، ونحوه لابن ماجه من
حديث أبي ذر لكن شك بعض رواته في أنهن أربع وثلاثون، ويخالف ذلك ما في
رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة عند أبي
داود ففيه "ويختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ"،
وكذا لمسلم في رواية عطاء بن يزيد عن أبي هريرة،
ومثله لأبي داود في حديث أم الحكم، ولجعفر الفريابي في
حديث أبي ذر، قال النووي: ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعا
وثلاثين ويقول معها لا إله إلا الله وحده إلخ. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرة
بزيادة تكبيرة ومرة بلا إله إلا الله على وفق ما وردت به الأحاديث.
قوله: «حتى يكون منهن كلهن» بكسر اللام
تأكيدا للضمير المجرور.
قوله: «ثلاث وثلاثون» بالرفع وهو اسم كان،
وفي رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت"
ثلاثا وثلاثين" وتوجه بأن اسم كان
محذوف والتقدير حتى يكون العدد منهن كلهن ثلاثا وثلاثين، وفي قوله "منهن
كلهن" الاحتمال المتقدم: هل العدد للجميع أو المجموع، وفي رواية ابن
عجلان ظاهرها أن العدد للجميع لكن يقول ذلك مجموعا، وهذا اختيار أبي صالح. لكن
الرواية الثابتة عن غيره الإفراد، قال عياض: وهو أولى. ورجح بعضهم
الجمع للإتيان فيه بواو العطف والذي يظهر أن كلا من الأمرين حسن، إلا أن الإفراد
يتميز بأمر آخر وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك -سواء كان
بأصابعه أو بغيرها- ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث.
(تنبيهان): الأول: وقع في
رواية ورقاء عن سمي عند المصنف في الدعوات في هذا الحديث
"تسبحون عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا"، ولم أقف في شيء من طرق
حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك لا
عن سمي ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع،
ثم ألغى الكسر. ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي ﷺ. وقد وجدت لرواية العشر شواهد: منها عن عليّ عند أحمد،
وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عنده،
وعن أبي داود والترمذي، وعن أم سلمة عند البزار،
وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني. وجمع البغوي في
"شرح السنة" بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون ذلك صدر في أوقات متعددة
أولها عشرا عشرا ثم إحدى عشرة إحدى عشرة ثم ثلاثا وثلاثين ثلاثا وثلاثين، ويحتمل
أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال.
وقد جاء من حديث زيد بن
ثابت وابن عمر" أنه
ﷺ أمرهم أن يقولوا كل ذكر منها خمسا وعشرين
ويزيدوا فيها لا إله إلا الله خمسا وعشرين" ولفظ زيد بن
ثابت أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر
أربعا وثلاثين، فأتي رجل في منامه فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا -فذكره-
قال: نعم قال: اجعلوها خمسا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل. فلما أصبح أتى النبي ﷺ وأخبره فقال:
فافعلوه أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان، ولفظ ابن
عمر رأى رجل من الأنصار فيما يرى النائم -فذكر نحوه وفيه- فقيل له
سبح خمسا وعشرين، واحمد خمسا وعشرين، وكبر خمسا وعشرين، وهلل خمسا وعشرين فتلك
مائة. فأمرهم النبي ﷺ أن يفعلوا كما قال. أخرجه النسائي وجعفر
الفريابي. واستنبط
من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة وإلا لكان يمكن أن يقال لهم:
أضيفوا لها التهليل ثلاثا وثلاثين.
وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد
الواردة كالذكر عقب الصلوات إذا رتب عليها ثواب مخصوص فزاد الآتي بها على العدد
المذكور لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية
تفوت بمجاوزة ذلك العدد، قال شيخنا الحافظ أبو الفضل في شرح الترمذي: وفيه
نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به فحصل له الثواب بذلك، فإذا
زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله؟ اهـ. ويمكن أن
يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد ثم أتى
بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب
على عشرة مثلا فرتبه هو على مائة فيتجه القول الماضي. وقد
بالغ القرافي في القواعد فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات
المحدودة شرعا؛ لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئا أن يوقف عنده ويعد الخارج عنه مسيئا
للأدب اهـ. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون مثلا فيه أوقية سكر فلو زيد فيه
أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من
السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع. ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد
لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد
المخصوص لما في ذلك من قطع الموالاة لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة
تفوت بفواتها، والله أعلم.
(التنبيه الثاني): زاد مسلم في
رواية ابن عجلان عن سمي"
قال أبو صالح فرجع فقراء
المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: سمع
إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله، فقال رسول الله ﷺ: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" ثم
ساقه مسلم من رواية روح بن القاسم عن سهيل عن أبيه
عن أبي هريرة فذكر طرفا منه ثم قال بمثل حديث قتيبة، قال: إلا أنه
أدرج في حديث أبي هريرة قول أبي صالح: فرجع فقراء المهاجرين. قلت:
وكذا رواه أبو معاوية عن سهيل مدرجا أخرجه جعفر الفريابي،
وتبين بهذا أن الزيادة المذكورة مرسلة، وقد روى الحديث البزار من
حديث ابن عمر وفيه "فرجع الفقراء" فذكره موصولا لكن قد قدمت
أن إسناده ضعيف. ورواه جعفر الفريابي من رواية حرام بن
حكيم وهو بحاء وراء مهملتين عن أبي ذر وقال فيه فقال أبو ذر: يا
رسول الله إنهم قد قالوا مثل ما نقول. فقال: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"
ونقل الخطيب أن حرام بن حكيم يرسل الرواية عن أبي ذر، فعلى
هذا لم يصح بهذه الزيادة إسناد، إلا أن هذين الطريقين يقوى بهما مرسل أبي
صالح. قال ابن
بطال عن المهلب: في
هذا الحديث فضل الغني نصا لا تأويلا، إذا استوت أعمال الغني والفقير
فيما افترض الله عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة ونحوها مما لا سبيل للفقير
إليه.
قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن هذا
الفضل يخص الفقراء دون غيرهم، أي: الفضل المترتب على الذكر المذكور، وغفل عن قوله
في نفس الحديث "إلا من صنع مثل ما صنعتم" فجعل الفضل لقائله
كائنا من كان. وقال القرطبي: تأول
بعضهم قوله: {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ}
[الجمعة: ٤] بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثواب المترتب على العمل الذي يحصل به
التفضيل عند الله، فكأنه قال: ذاك الثواب الذي أخبرتكم به لا يستحقه أحد بحسب
الذكر ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل الله. قال: وهذا التأويل فيه بعد، ولكن
اضطره إليه ما يعارضه. وتعقب بأن الجمع بينه وبين ما يعارضه ممكن من غير احتياج
إلى التعسف. وقال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث القريب من
النص أنه فضل الغني، وبعض الناس تأوله بتأويل مستكره كأنه يشير إلى ما تقدم. قال:
والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا وفضلت العبادة المالية أنه يكون الغني أفضل،
وهذا لا شك فيه، وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه أيهما أفضل؟
إن فسر الفضل بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة
فيترجح الغني، وإن فسر بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل لها من التطهير
بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ومن ثم ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر.
وقال القرطبي: للعلماء
في هذه المسألة خمسة أقوال، ثالثها الأفضل الكفاف، رابعها يختلف باختلاف الأشخاص،
خامسها التوقف. وقال الكرماني: قضية الحديث أن شكوى
الفقر تبقى بحالها. وأجاب بأن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العلا والنعيم المقيم لهم
أيضا لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقا اهـ. والذي يظهر أن مقصودهم إنما كان طلب
المساواة.
ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم النبي ﷺ أن متمني الشيء يكون شريكا لفاعله في الأجر كما
سبق في كتاب العلم في الكلام على حديث ابن مسعود الذي أوله لا حسد
إلا في اثنتين فإن في رواية الترمذي من وجه آخر التصريح بأن المنفق
والمتمني إذا كان صادق النية في الأجر سواء، وكذا قوله ﷺ:
"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء" فإن
الفقراء في هذه القصة كانوا السبب في تعلم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا
معهم في قوله امتاز الفقراء بأجر السبب مضافا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب
بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شظف العيش وشكر الغني على التنعم
بالمال، ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر، وسيكون لنا عودة إلى ذلك في
الكلام على حديث الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر في كتاب الأطعمة إن
شاء الله تعالى.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم:
أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به
المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل لئلا يقع الخلاف، كذا قال ابن بطال،
وكأنه أخذه من كونه ﷺ أجاب بقوله "ألا
أدلكم على أمر تساوونهم فيه" وعدل عن قوله "نعم هم أفضل منكم بذلك".
وفيه التوسعة في الغبطة، وقد تقدم تفسيرها في كتاب العلم، والفرق بينها وبين الحسد
المذموم. وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى
العمل بما بلغهم، ولم ينكر عليهم ﷺ فيؤخذ منه
أن قوله "إلا من عمل" عام للفقراء والأغنياء خلافا لمن أوله بغير ذلك.
وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق. وفيه فضل الذكر عقب الصلوات،
واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة كما سيأتي في
الدعوات؛ لأنه في معناها؛ ولأنها أوقات فاضلة يرتجى فيها إجابة الدعاء. وفيه أن
العمل القاصر قد يساوي المتعدي خلافا لمن قال إن المتعدي أفضل مطلقا، نبه على ذلك
الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
٨٤٤- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ،
قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ،
كَاتِبِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ
مَكْتُوبَةٍ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا
مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ».
وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَبْدِ المَلِكِ
بْنِ عُمَيْرٍ، بِهَذَا، وَعَنِ الحَكَمِ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ
وَرَّادٍ، بِهَذَا، وَقَالَ الحَسَنُ: الجَدُّ: غِنًى.
الشرح:
قوله: (حدثنا سفيان) هو
الثوري، ورجال الإسناد كلهم كوفيون إلا محمد بن يوسف وهو الفريابي.
قوله: (عن وراد) في
رواية معتمر بن سليمان عن سفيان عند الإسماعيلي "حدثني وراد".
قوله: (أملى علي المغيرة) أي:
ابن شعبة (في كتاب إلى معاوية) كان المغيرة إذ
ذاك أميرا على الكوفة من قبل معاوية وسيأتي في الدعوات من وجه
آخر عن وراد بيان السبب في ذلك، وهو أن معاوية كتب إليه: اكتب
لي بحديث سمعته من رسول الله ﷺ، وفي القدر من
رواية عبدة بن أبي لبابة عن وراد قال
"كتب معاوية إلى المغيرة: اكتب إليّ ما سمعت
النبي ﷺ يقول خلف الصلاة". قد قيدها في
رواية الباب بالمكتوبة فكأن المغيرة فهم ذلك من قرينة في السؤال واستدل
به على العمل بالمكاتبة وإجرائها مجرى السماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة. وعلى الاعتماد
على خبر الشخص الواحد. وسيأتي
في القدر في آخره أن ورادا قال "ثم وفدت بعد على معاوية فسمعته
يأمر الناس بذلك" وزعم بعضهم أن معاوية كان قد سمع الحديث المذكور،
وإنما أراد استثبات المغيرة واحتج بما في الموطأ من وجه آخر
عن معاوية أنه كان يقول على المنبر أيها الناس، إنه لا مانع لما
أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجد منه الجد. من يرد الله به
خيرا يفقهه في الدين. ثم
يقول: سمعته من رسول الله ﷺ على هذه الأعواد.
قوله: «له الملك وله الحمد»
زاد الطبراني من طريق أخرى عن المغيرة "يحيي ويميت وهو حي لا يموت،
بيده الخير -إلى- قدير" ورواته موثقون. وثبت مثله عند البزار من
حديث عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف، لكن في القول إذا أصبح وإذا أمسى.
قوله: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد»
قال الخطابي: الجد
الغنى، ويقال الحظ، قال: و "من" في قوله "منك" بمعنى البدل،
قال الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت
على الطهيان.
يريد ليت لنا بدل ماء زمزم اهـ.
وفي الصحاح: معنى "منك" هنا عندك،
أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح. وقال ابن التين: الصحيح
عندي أنها ليست بمعنى البدل ولا عند، بل هو كما تقول: ولا ينفعك مني شيء إن أنا
أردتك بسوء. ولم يظهر من كلامه معنى، ومقتضاه أنها بمعنى عند أو فيه حذف تقديره من
قضائي أو سطوتي أو عذابي. واختار الشيخ جمال الدين في المغني الأول،
قال ابن دقيق العيد: قوله
منك يجب أن يتعلق بـ ينفع، وينبغي أن يكون ينفع قد ضمن معنى يمنع وما قاربه، ولا
يجوز أن يتعلق منك بالجد كما يقال حظي منك كثير؛ لأن ذلك نافع اهـ. والجد مضبوط في
جميع الروايات بفتح الجيم ومعناه الغنى كما نقله المصنف عن الحسن، أو الحظ.
وحكى الراغب أن المراد به هنا
أبو الأب، أي: لا ينفع أحدا نسبه. قال القرطبي: حكي عن أبي عمرو
الشيباني أنه رواه بالكسر وقال: معناه لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده.
وأنكره الطبري. وقال القزاز في
توجيه إنكاره: الاجتهاد في العمل نافع؛ لأن الله قد دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا
ينفع عنده؟ قال: فيحتمل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع
أمر الآخرة. وقال غيره: لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول، وذلك
لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، كما تقدم في شرح قوله "لا يدخل أحدا منكم
الجنة عمله" وقيل: المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو
الإسراع في الهرب. قال النووي: الصحيح المشهور الذي
عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان،
والمعنى لا ينجيه حظه منك، وإنما ينجيه فضلك ورحمتك. وفي الحديث استحباب هذا الذكر
عقب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإعطاء
وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها.
(فائدة): اشتهر على الألسنة في الذكر المذكور
زيادة" ولا
راد لما قضيت" وهي
في مسند عبد بن حميد من رواية معمر عن عبد الملك بن
عمير بهذا الإسناد، لكن حذف قوله" ولا
معطي لما منعت" ووقع
عند الطبراني تاما من وجه آخر كما سنذكره في كتاب القدر إن شاء الله تعالى.
ووقع عند أحمد والنسائي وابن خزيمة من
طريق هشيم عن عبد الملك بالإسناد المذكور أنه كان يقول الذكر
المذكور أولا ثلاث مرات.
قوله: (وقال شعبة عن عبد
الملك بن عمير بهذا) وصله السراج في مسنده، والطبراني في
الدعاء، وابن حبان من طريق معاذ بن معاذ عن شعبة ولفظه
عن عبد الملك بن عمير "سمعت ورادا كاتب المغيرة بن
شعبة أن المغيرة كتب إلى معاوية" فذكره.
وفي قوله "كتب" تجوز لما تبين من رواية سفيان وغيره أن الكاتب
هو وراد، لكنه كتب بأمر المغيرة وإملائه عليه.
وعند مسلم من رواية عبدة عن وراد قال: كتب المغيرة إلى معاوية،
كتب ذلك الكتاب له وراد. فجمع بين الحقيقة والمجاز.
قوله: (وقال الحسن جد غنى)
الأولى في قراءة هذا الحرف أن يقرأ بالرفع بغير تنوين على الحكاية، ويظهر ذلك من
لفظ الحسن، فقد وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء وعبد
بن حميد من طريق سليمان التيمي كلاهما عن الحسن في قوله تعالى:
{وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:
٣] قال: غنى ربنا.
وعادة البخاري إذا وقع في
الحديث لفظة غريبة وقع مثلها في القرآن يحكي قول أهل التفسير فيها وهذا منها. ووقع
في رواية كريمة" قال الحسن: الجد
غنى" وسقط هذا الأثر من أكثر الروايات.
قوله: (وعن الحكم) هكذا
وقع في رواية أبي ذر التعليق عن الحكم مؤخرا عن أثر الحسن،
وفي رواية كريمة بالعكس وهو الأصوب؛ لأن قوله وعن الحكم معطوف
على قوله عن عبد الملك، فهو من رواية شعبة عن الحكم أيضا،
وكذلك أخرجه السراج والطبراني وابن حبان بالإسناد المذكور
إلى شعبة ولفظه كلفظ عبد الملك إلا أنه قال فيه" كان إذا قضى
صلاته وسلم قال" فذكره،
ووقع نحو هذا التصريح لمسلم من طريق المسيب بن
رافع عن وراد به.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: