باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ابن حجر العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر
العسقلاني
باب إذا حضر الطعام وأقيمت
الصلاة
فتح الباري شرح صحيح البخاري: أَبْوَابُ
صَلاَةِ الجَمَاعَةِ وَالإِمَامَةِ بَابٌ: إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ
الصَّلاَةُ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ: يَبْدَأُ بِالعَشَاءِ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِنْ فِقْهِ المَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى
حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ.
٦٧١- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ:
حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ
عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا وُضِعَ العَشَاءُ وَأُقِيمَتِ
الصَّلاَةُ، فَابْدَءُوا بِالعَشَاءِ».
الشرح:
قوله: (باب إذا حضر الطعام وأقيمت
الصلاة) قال الزين بن المنير: حذف جواب الشرط في هذه الترجمة إشعارا بعدم الجزم
بالحكم لقوة الخلاف، انتهى. وكأنه أشار بالأثرين المذكورين في الترجمة إلى منزع
العلماء في ذلك فإن ابن عمر حمله على إطلاقه، وأشار أبو الدرداء إلى تقييده بما
إذا كان القلب مشغولا بالأكل، وأثر ابن عمر مذكور في الباب بمعناه، وأثر أبي
الدرداء وصله ابن المبارك في (كتاب الزهد)، وأخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب
(تعظيم قدر الصلاة) من طريقه.
قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان،
وقد أخرجه السراج من طريق يحيى بن سعيد الأموي عن هشام بن عروة أيضا، لكن لفظه
"إذا حضر"، وذكره المصنف في (كتاب الأطعمة) من طريق سفيان عن هشام بلفظ
"إذا حضر"، وقال بعده: قال يحيى بن سعيد ووهيب عن هشام "إذا
وضع"، انتهى. ورواية وهيب وصلها الإسماعيلي وأخرجه مسلم من رواية ابن نمير
وحفص ووكيع بلفظ "إذا حضر"، ووافق كلا جماعة من الرواة عن هشام، لكن
الذين رووه بلفظ "إذا وضع"، كما قال الإسماعيلي أكثر، والفرق بين اللفظين
أن الحضور أعم من الوضع فيحمل قوله "حضر"، أي: بين يديه لتأتلف
الروايتان لاتحاد المخرج، ويؤيده حديث أنس الآتي بعده بلفظ "إذا قدم
العشاء"، ولمسلم "إذا قرب"، وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر
العشاء، لكنه لم يقرب للأكل كما لو لم يغرف.
قوله: «وأقيمت الصلاة» قال ابن دقيق
العيد: الألف واللام في (الصلاة) لا ينبغي أن تحمل على الاستغراق، ولا على تعريف
الماهية، بل ينبغي أن تحمل على المغرب لقوله «فابدؤوا بالعشاء» ويترجح حمله على
المغرب لقوله في الرواية الأخرى "فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب"،
والحديث يفسر بعضه بعضا، وفي رواية صحيحة "إذا وضع العشاء وأحدكم صائم "
انتهى. وسنذكر من أخرج هذه الرواية في الكلام على الحديث الثاني.
وقال الفاكهاني: ينبغي حمله على العموم
نظرا إلى العلة وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي حصرا
فيها؛ لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم، انتهى. وحمله على
العموم إنما هو بالنطر إلى المعنى إلحاقا للجائع بالصائم وللغداء بالعشاء لا
بالنظر إلى اللفظ الوارد.
قوله: «فابدؤوا بالعشاء» حمل الجمهور هذا
الأمر على الندب ثم اختلفوا، فمنهم من قيده بمن كان محتاجا إلى الأكل وهو المشهور
عند الشافعية، وزاد الغزالي ما إذا خشي فساد المأكول، ومنهم من لم يقيده وهو قول
الثوري وأحمد وإسحاق وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي، وأفرط ابن حزم فقال تبطل
الصلاة.
ومنهم من اختار البداءة
بالصلاة إلا إن كان الطعام خفيفا نقله ابن المنذر عن مالك وعند أصحابه تفصيل،
قالوا يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل أو كان متعلقا به، لكن لا يعجله
عن صلاته فإن كان يعجله بدأ بالطعام واستحبت له الإعادة.
٦٧٢- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ،
قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا قُدِّمَ العَشَاءُ، فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ
تُصَلُّوا صَلاَةَ المَغْرِبِ، وَلاَ تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ».
الشرح:
قوله: (عن عقيل) في رواية الإسماعيلي
"حدثني عقيل"، وعنده أيضا "عن ابن شهاب أخبرني أنس".
قوله: «إذا قدم العشاء»، زاد ابن حبان
والطبراني في (الأوسط) من رواية موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب
"وأحدكم صائم"، وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بدون هذه
الزيادة، وذكر الطبراني أن موسى بن أعين تفرد بها، انتهى. وموسى ثقة، متفق عليه.
قوله: «ولا تعجلوا» بضم المثناة وبفتحها
والجيم مفتوحة فيهما، ويروى بضم أوله وكسر الجيم.
٦٧٣- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ،
فَابْدَءُوا بِالعَشَاءِ وَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ» وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ: يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلاَةُ، فَلاَ يَأْتِيهَا
حَتَّى يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ.
الشرح:
قوله في حديث ابن عمر: «إذا وضع عشاء
أحدكم» هذا أخص من الرواية الماضية حيث قال "إذا وضع العشاء" فيحمل
العشاء في تلك الرواية على عشاء من يريد الصلاة فلو وضع عشاء غيره لم يدخل في ذلك،
ويحتمل أن يقال بالنظر إلى المعنى لو كان جائعا واشتغل خاطره بطعام غيره، كان كذلك
وسبيله أن ينتقل عن ذلك المكان أو يتناول مأكولا يزيل شغل باله ليدخل في الصلاة
وقلبه فارغ، ويؤيد هذا الاحتمال عموم قوله في رواية مسلم من طريق أخرى عن عائشة
"لا صلاة بحضرة طعام" الحديث. وقول أبي الدرداء الماضي "إقباله على
حاجته".
قوله: «ولا يعجل» أي: أحدكم المذكور أولا،
وقال الطيبي أفرد قوله "يعجل" نظرا إلى لفظ "أحد"، وجمع قوله
"فابدؤوا" نظرا إلى لفظ "كم" قال والمعنى إذا وضع عشاء أحدكم
فابدؤوا أنتم بالعشاء ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه، انتهى.
قوله: (وكان ابن عمر) هو موصول عطفا عل
المرفوع، وقد رواه السراج من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع فذكر المرفوع
ثم قال: قال نافع وكان ابن عمر إذا حضر عشاؤه وسمع الإقامة وقراءة الإمام لم يقم
حتى يفرغ.
ورواه ابن حبان من طريق ابن جريج عن نافع
أن ابن عمر كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس، وكان أحيانا يلقاه وهو صائم فيقدم له
عشاؤه، وقد نودي للصلاة ثم تقام وهو يسمع فلا يترك عشاءه، ولا يعجل حتى يقضي
عشاءه، ثم يخرج فيصلي، انتهى. وهذا أصرح ما ورد عنه في ذلك.
قوله: (وإنه يسمع) في رواية الكشميهني
"وإنه ليسمع" بزيادة لام التأكيد في أوله.
٦٧٤- وَقَالَ زُهَيْرٌ، وَوَهْبُ بْنُ
عُثْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، فَلاَ
يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ»،
رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ عُثْمَانَ، وَوَهْبٌ
مَدِينِيٌّ.
الشرح:
قوله: (وقال زهير) هو ابن معاوية الجعفي،
وطريقه هذه موصولة عند أبي عوانة في (مستخرجه) وأما رواية وهب بن عثمان فقد ذكر
المصنف أن إبراهيم بن المنذر رواها عنه وإبراهيم من شيوخ البخاري، وقد وافق زهيرا
ووهبا أبو ضمرة عند مسلم، وأبو بدر عند أبي عوانة، والدراوردي عند السراج، كلهم عن
موسى بن عقبة.
قال النووي: في هذه الأحاديث كراهة
الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله لما فيه من ذهاب كمال الخشوع، ويلتحق به ما في
معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة فإن ضاق صلى على حاله محافظة على
حرمة الوقت ولا يجوز التأخير، وحكى المتولي: وجها أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت؛
لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته، انتهى. وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع
ثم فيه نظر؛ لأن المفسدتين إذا تعارضتا اقتصر على أخفهما، وخروج الوقت أشد من ترك
الخشوع بدليل صلاة الخوف والغريق وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة
وتستحب الإعادة عند الجمهور.
وادعى ابن حزم: أن في الحديث دليلا على
امتداد الوقت في حق من وضع له الطعام ولو خرج الوقت المحدود، وقال مثل ذلك في حق
النائم والناسي. واستدل النووي وغيره بحديث أنس على امتداد وقت المغرب واعترضه ابن
دقيق العيد بأنه إن أريد بذلك التوسعة إلى غروب الشفق ففيه نظر، وإن أريد به مطلق
التوسعة فمسلم ولكن ليس محل الخلاف المشهور فإن بعض من ذهب إلى ضيق وقتها جعله
مقدرا بزمن يدخل فيه مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع.
واستدل به القرطبي على أن شهود صلاة
الجماعة ليس بواجب؛ لأن ظاهره أن يشتغل بالأكل وإن فاتته الصلاة في الجماعة وفيه
نظر؛ لأن بعض من ذهب إلى الوجوب كابن حبان جعل حضور الطعام عذرا في ترك الجماعة
فلا دليل فيه حينئذ على إسقاط الوجوب مطلقا.
(وفيه): دليل على تقديم فضيلة الخشوع في
الصلاة على فضيلة أول الوقت، واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله
"فابدؤوا" على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل فأما من شرع ثم أقيمت
الصلاة فلا يتمادى بل يقوم إلى الصلاة، قال النووي وصنيع ابن عمر يبطل ذلك وهو الصواب،
وتعقب بأن صنيع ابن عمر اختيار له وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكره؛ لأنه
يكون قد أخذ من الطعام ما دفع شغل البال به، ويؤيد ذلك حديث عمرو بن أمية المذكور
في الباب بعده ولعل ذلك هو السر في إيراد المصنف له عقبه.
وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة بإسناد
حسن عن أبي هريرة وابن عباس أنهما كانا يأكلان طعاما وفي التنور شواء فأراد المؤذن
أن يقيم فقال له ابن عباس: "لا تعجل لا نقوم وفي أنفسنا منه شيء"، وفي
رواية ابن أبي شيبة "لئلا يعرض لنا في صلاتنا"، وله عن الحسن بن علي
قال: "العشاء قبل الصلاة يذهب النفس اللوامة".
وفي هذا كله إشارة إلى أن العلة في ذلك
تشوف النفس إلى الطعام فينبغي أن يدار الحكم مع علته وجودا وعدما، ولا يتقيد بكل
ولا بعض، ويستثنى من ذلك الصائم فلا تكره صلاته بحضرة الطعام إذ الممتنع بالشرع لا
يشغل العاقل نفسه به، لكن إن غلب استحب له التحول من ذلك المكان.
(فائدتان): الأولى: قال ابن الجوزي ظن قوم أن
هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الحق ليدخل
الخلق في عبادته بقلوب مقبلة، ثم إن طعام القوم كان شيئا يسيرا لا يقطع عن لحاق
الجماعة غالبا.
الثانية: ما يقع في بعض كتب الفقه
"إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء" لا أصل له في كتب الحديث بهذا
اللفظ، كذا في (شرح الترمذي) لشيخنا أبي الفضل، لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين أن
ابن أبي شيبة أخرج عن إسماعيل وهو ابن علية عن ابن إسحاق قال حدثني عبد الله بن
رافع عن أم سلمة مرفوعا "إذا حضر العشاء وحضرت العشاء فابدؤوا بالعشاء"
فإن كان ضبطه فذاك، وإلا فقد رواه أحمد في (مسنده) عن إسماعيل بلفظ "وحضرت
الصلاة" ثم راجعت (مصنف ابن أبي شيبة) فرأيت الحديث فيه كما أخرجه أحمد،
والله أعلم.
الحمد
لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن
المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح
الأعمال
ليست هناك تعليقات: