شرح الحديث التاسع/ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه
الأربعين النووية
شرح العلامة الشيخ عبد
العزيز بن عبد الله بن باز
شرح
الحديث التاسع/ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه
شرح
الحديث التاسع: النهي عن كثرة السؤال والتشدد.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُوْلَ اللهِ ﷺ يَقُوْلُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا
أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ
الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى
أَنْبِيَائِهِمْ» رواه البخاري، ومسلم [١].
الشرح:
يَقُول
اَلمُؤلف أَبُو يَحيَى النَّوَويَّ رَحمَه اَللَّه: عن أَبِي هُريْرَة رَضِي
اَللَّه عَنْه، وَأبُو هُريْرَة دَوسِيُّ مِن دَوسِ، إِحْدى قَبائِل العرب، واسْمه
عَبْد الرَّحْمن بْن صَخْر اَلدوْسِيُّ، هذَا أصحَّ مَا قِيل فِيه، وَهُو مِن
المكْثرين، مِن حِفَاظ الصَّحابة المكْثرين رَضِي اَللَّه عَنْه وأرْضَاه، يَقُول:
إِنَّه سَمِع اَلنبِي ﷺ يَقُول: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا
أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ
الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى
أَنْبِيَائِهِمْ» أخرجه الشيخان في الصحيحين.
هذَا
حديث عظيم مِن جَوامِع اَلكَلِم، كلماته قَلِيلَة جَامِعة: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُ»، هذَا يَدُل
على أَصْل عظيم، وأنَّ مَا نهى عَنْه الرَّسول يَجِب اِجْتنابه، وَأنَّه مُحرَّم،
الأصْل فِي النَّهْي التَّحْريم، هذَا هُو الأصْل، إِلَّا إِذَا دلَّ دليل على
أَنَّه لِلْكراهة، وَإلَّا فالْأَصْل أَنَّه لِلتَّحْريم؛ لِقَول ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ
عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»، ولقوْل اَللَّه سُبْحانه: {وَمَا
آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:
٧]، عليْنَا أن نَنتَهِي عَمَّا نهانَا عَنْه، وَعَلينَا أن نَفعَل مَا أَمرَنا
بِه، وأن نَقبَل مَا جاء مِن تَحلِيل أو تَحرِيم، نقْبله لِأنَّ اَللَّه يَقُول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: ٧]، ويقول سبحانه: {مَنْ
يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: ٨٠].
فَعَلينَا
أن نَجتَنِب مَا نهى عَنْه ﷺ، وأن نَمتَثِل
مَا أَمرَنا بِه، وَهذَا هُو الأصْل؛ وُجُوب الامْتثال لِلْأوامر، والامْتثال لِلنَّواهي،
فالْمنْهي عَنْه يُترُكُ، والْمأْمور بِه يُفعَلُ، إِلَّا إِذَا دلَّ دليل على
أنَّ الأمْر لَيْس لِلْوجوب، أو أنَّ النَّهْي لَيْس لِلتَّحْريم، بل لِلْكراهة،
وَإلَّا فالْأَصْل هُو هذَا؛ وُجُوب الامْتثال لِأوامره ونواهيه عليْه الصَّلَاة
والسَّلام: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ
مَا اسْتَطَعْتُمْ»، يُؤدِّى المسْتطاع: {لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦].
وهكذَا
اَلمُحرم، إِذَا اُضطُر إِلَيه الإنْسان يُجتَنبُ؛ إِلَّا عِنْد الضَّرورة، كمَا
قال تَعالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩]، كالْميْتةِ
لِلضَّرورة.
وهكذَا
مَا أمر اَللَّه بِه وَرسُوله يُؤدِّى مع الاسْتطاعة: {فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦]، فَإذَا عجز عن الصَّلَاة قائمًا
يُصلِّي قاعدًا، وَإذَا عجز عن اَلقُعود صَلَّى على جَنبِه، وَإذَا اِحْتَاج المَيتَةَ
أَكْل مِنهَا لِلضَّرورة.
وهكذَا
إِذَا جاء مَا يَدُل على أنَّ النَّهْي لَيْس لِلتَّحْريم، جاز، مثل: النَّهْي عن
الشُّرْب قائمًا [٢]، ثم شرب ﷺ قائمًا [٣]؛ دلَّ
على أنَّ الشُّرْب قائمًا لَيْس بِحرام، هُو فقط مَكرُوه، أو تَركِه أَفضَل؛ إِذ
كان مُحَرما مَا فَعلَه عليْه الصَّلَاة والسَّلام.
وهكذَا
أَمْر بِالْقيام عِنْد رُؤيَة الجنازة [٤]، ثُمَّ قعد فِي بَعْض الأحْيان [٥]؛ فدلَّ
على أنَّ القيَام لَهَا غَيْر وَاجِب، إن قام فَهُو أُفضِّل، وَإِن جلس فلَا بَأْس،
ونظائرُ هذَا.
فالْحاصل
أنَّ الأمْر يَدُل على اَلوُجوب إِلَّا إِذَا دلَّ دليل على الاسْتحْباب،
والنَّهْي لِلتَّحْريم إِلَّا إِذَا دلَّ اَلدلِيل على أَنَّه لَيْس لِلتَّحْريم،
بل لِلْكراهة، أو تَرْك اَلأُولى، والْأَصْل فِي المحرَّمات المنْع إِلَّا
لِلضَّرورة: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩]، والْأَصْل فِي الواجبات الامْتثال إِلَّا عِنْد العجْز: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦]، قال ﷺ: «صَلِّ قَائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» [٦].
وَفِي
اَلحدِيث التَّحْذير مِن الاخْتلاف، وأنَّ الاخْتلاف سبب شرٍّ؛ فَإنَّه أَهلُك من
كان قِبلنَا كَثرَة مسائلهم واخْتلافهم، فَيجِب على اَلمُؤمن أن يَكُون حريصًا على
اَلحَق، طالبًا لَه، وأن يُحذِّر كَثرَة المسائل اَلتِي يَحصُل بِهَا التَّشْويش
والْتباس اَلأُمور والْوسْوسة، يَسأَل عَمَّا أَهمَّه، وَعمَّا تَدعُو الحاجة
إِلَيه، وَيكُف عن التَّعَنُّتِ فِي الأسْئلة اَلتِي تَجرُّه الشُّبْهة، أو
تَجرُّه إِلى الرِّدَّة، أو تَجرُّه إِلى اَلشَّك فِي الدِّين، أو تَجرُّه إِلى
الشَّحْناء والْعداوة بَينَه وبيْن إِخْوانه؛ بل يَتَحرَّى الأسْئلة اَلتِي
يَحْتاج إِليْهَا، والْقَصْد الطَّيِّب فِي سُؤَالِه، ويحذِّر النِّزَاع والْخلاف،
وهكذَا كُلٌّ وَاحِد؛ فَإِن النِّزَاع والْخلاف بَيْن المسْلمين يُفْضِي إِلى شرٍّ:
«فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ
كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ»؛ ولهذا ذم
الله الاختلاف، فقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: ١١٨-١١٩]، فأهْل
الرَّحْمة هُم أَهْل الجماعة.
فالاخْتلاف
يَجِب الحذر مِنْه، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْه عِنْد اِختِلاف الاجْتهاد
وَخَفاء اَلدلِيل؛ فقد يُظْهِر لِهَذا قَوْل، وَلِهذَا قَوْل، لَكِن مع الإنْصاف،
ومع تحرِّي اَلحَق، ومع عدم الظُّلْم فِي النِّزَاع، كُلُّ يُبْدِي مَا لَديْه مِن
اَلأدِلة الشَّرْعيَّة مع الإنْصاف، ومع اَلحُلم، ومع عدم سُوء القوْل، هَكذَا
المؤْمنين إِذَا تنازعوا فَكُل وَاحِد يُنْصِف أَخَاه، ويتحَرَّى اَلحَق مِن دُون
تَعنُّت فِي الكلَام أو سُوء أدب مع أخيه، فَيفضِي ذَلِك إِلى الشَّحْناء
والْعداوة: «فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ
قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ».
رَزق اَللَّه اَلجمِيع التَّوْفيق والْهداية.
[١]
صحيح البخاري (٧٢٨٨)، وصحيح مسلم (١٣٣٧).
[٢]
روى مسلم (٢٠٢٤) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي ﷺ:
"نهى أن يشرب الرجل قائما".
[٣]
روى البخاري (٥٦١٧)، ومسلم (٢٠٢٧) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "شرب
النبي ﷺ قائما من زمزم".
[٤]
رواه البخاري (١٣٧٠)، ومسلم (٩٥٨) من حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه.
[٥]
رواه مسلم (٩٦٢) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[٦]
رواه البخاري (١١١٧) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
الْحمْد
لِلَّه ربِّ الْعالمين
اللَّهمَّ اِرْحم مَوْتَانا
مِن المسْلمين واجْمعْنَا بِهم فِي جَنَّات النَّعِيم
تَقبَل اَللَّه مِنَّا ومنْكم صَالِح الأعْمال
ليست هناك تعليقات: