شرح الحديث النبوي الشريف (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) من رياض الصالحين
باب
حق الجار والوصية به
لفضيلة
الدكتور محمد راتب النابلسي
شرح
الحديث النبوي الشريف (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) من رياض
الصالحين
أحاديث
رياض الصالحين: باب حق الجار والوصية به
٣١٣
- عن أبى هريرة -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- أَن رسول اللَّه ﷺ
قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ، فَلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخرِ،
فَلْيكرِمْ ضَيْفهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمنُ بِاللَّهِ وَالْيومِ الآخِرِ،
فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ» متفقٌ عليه.
٣١٤
- وعن أبي شُريْح الخُزاعيِّ -رَضِّيَّ اللهُ عَنْهُ- أَن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ والْيوْمِ الآخِرِ،
فَلْيُحسِنْ إلِي جارِهِ، ومنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفهُ، ومنْ كَانَ يؤمنُ باللَّهِ
واليومِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيسْكُتْ» رواه مسلم بهذا اللفظ،
وروى البخاري بعضه.
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا
علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا
بما علمتنا وزدنا علمًا، وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا
وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في
عبادك الصالحين.
أيها
الإخوة المؤمنون: الحديث الشريف اليوم حديث رواه الإمام البخاري ومسلم في
صحيحيهما، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»
متفق عليه.
نأخذ
من هذا الحديث فقرة واحدة، وهي قول النبي ﷺ: «فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»
أيها
الإخوة: الله جل جلاله حينما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: ١-٤].
فالبيان
من أخص خصائص الإنسان، وأعتقد أن أخطر نشاط للإنسان هو كلامه، بل إن الأنبياء
العظام بماذا جاؤوا؟ بالكلمة، بكلمة طيبة، والكلمة الطيبة قد تصلح مجتمعًا، وقد
تنقذ أمةً، وقد تسعد البشرية كلها، لكن هذه الكلمة كما أنها يمكن أن تكون سبب
سعادة البشرية يمكن أن تكون سبب شقائها، قال تعالى:
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: ٢٦]
فيمكن
أن تصلح أمة بأكملها بكلمة طيبة صادقة مخلصة، ويمكن أن تفسد أمة بكلمة خبيثة كاذبة
مرائية فيجب أن يعلم الأخ الكريم أن أخص خصائص الإنسان البيان قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ
الْبَيَانَ} [الرحمن: ١-٤].
وانطلاقًا
من مقولة أقولها دائمًا، وهي أن كل حظوظ الإنسان في الدنيا إما أنها سلّم ترقى به،
وإما إنها دركات تهوي بها، خاصة البيان الذي يمكن أن توظفه في هداية البشرية،
ويمكن أن توظفه في إضلال البشر، المبادئ الهدامة، المبادئ الوضعية الإلحادية كيف
تروَّج؟ بالكلمة، بالتأليف، بالكتاب.
بالمناسبة،
اللغة العربية أو أية لغة إنسانية فيها أربعة نشاطات، النشاط الأول التكلم،
والثاني الاستماع، والثالث الكتابة، والرابع القراءة، فاللغة تكلم، واستماع،
وكتابة، وقراءة، فلو أن اللغة كلام واستماع لاقتصرت وظيفة اللغة على من تعاصره
فقط، ولكن أن تنتقل الثقافات من جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أمة فهذا يحتاج إلى الشق
الثاني من اللغة، إلى أن تكتب، وإلى أن تقرأ، أنت الآن تقرأ كتاب الإحياء للغزالي،
تقرأ تفسير القرطبي، تقرأ تراث أمة أخرى عن طريق الكتابة والترجمة والقراءة.
فثقافات
البشرية تتراكم بهذه الطريقة، لما يدرس الطالبُ علم الفيزياء في الصف الحادي عشر
أو الثاني عشر هو لا يدري أنه يدرس خلاصة علوم العلماء من ألف عام تراكمت عن طريق
اللغة المكتوبة والمقروءة، لذلك: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: ١-٤].
علم
بالقلم إشارة إلى اللغة المكتوبة، لذلك يؤخذ العلمُ مشافهة، ويؤخذ مدارسةً، وأكمل
شيء في العلم أن تأخذه مشافهة ومدارسةً، يعني: أن تقرأ كتابًا على يد عالم.
أيها
الإخوة: مرةً ثانية، البيان أخص خصائص الإنسان، الله جل جلاله، كرم الإنسان
بالبيان، أضرب لكم مثلًا: لو أن البيان لم يكن في بني البشر، وأراد حاكم أمة أن
يوجه أمرًا ما كيف يُعلِم هذه الأمة بشيء ما؟ لا بدَّ من أن يكون لكل مواطن موظف
يدفعه إلى الدخول إلى بيته، لكن تصور قرار منع تجول يذاع في الإذاعة مرة واحدة ترى
الطرقات فارغة، معنى هذا أن اللغة من تعاريفها أنها أداة اتصال بين أفراد النوع،
وهي أرقى اتصال، فإذا قلت لإنسان: اخرج، فإنه يقف ويخرج، أما إذا أردت أن تخرجه
بقوتك العضلية فينبغي أن تقف، وتحمله، وأن تلقيه خارج البيت، فاللغة أرقى أدوات
الاتصال بين أفراد النوع، اتصال راقٍ جدًا، أنت من الممكن أن تأخذ أفكار إنسان
وتجاربه وعلمه وخبرته ومشاعره وعواطفه من خلال قراءة إنتاجه العملي.
فاللغة
أيها الإخوة الأكارم: تعد أخص خصائص الإنسان، وانطلاقًا من المقولة الشهيرة أن كل
حظوظ الإنسان يمكن أن توظف في الحق كما يمكن أن توظف في الباطل ففي اللغة ينتشر
الضلال، وباللغة تثار الغرائز في الأدب الرخيص، وباللغة تكاد المكايد، وباللغة
تخرب الديار، وباللغة تشتت الجماعات، وباللغة تفصم العرى، وباللغة تؤلف القلوب، وباللغة
يجتمع الشمل، وباللغة يعم الخير والرشاد، فيجب أن تعلم أن أخص خصائصك كلامك، ولا
يوجد إنسان يسكت، الإنسان الغني والفقير، والتاجر الريفي والمدني يتكلم باستمرار،
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام، في مجموعة من الأحاديث كبيرة جدًا ضبط موضوع
الكلام.
وبصراحة
أقول لكم أيها الإخوة: من أخص خصائص المؤمن ضبط لسانه، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا
يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ
خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» متفق عليه.
طبعًا
لهذا الحديث تتمات وروايات كثيرة، منها: "فلا يؤذي جاره"، منها: "فليحسن
قرى ضيفه"، منها: "فليصل رحمه".
الآن
الإيمان إقرار واعتقاد وعمل، ما وقر في القلب، وأقره اللسان، وصدقه العمل، هذا
الإيمان، ليس إيمانًا اعتقاديًا فقط، ولا إيمانًا صامتًا، الإيمان ناطق، ولا يوجد
إيمان ساكن، الإيمان متحرك، في اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في قلب الإنسان
يعبر عن ذاته بالطمأنينة في قلبه، وبالذكر في لسانه، وبخدمة الناس في عمله،
فالإيمان اعتقاد، والإيمان إقرار، والإيمان عمل.
الآن
من أعمال الإيمان، كلمة إيمان كلمة كبيرة جدًا، يعني: من السذاجة أن تصفها بصفة
واحدة، أخي الإيمان اعتقاد؟ لا، الإيمان اعتقاد، والإيمان اتصال بالله، والإيمان
طمأنينة، والإيمان دعوة، والإيمان عمل، هل تصدق أن وردةً من أخص خصائصها رائحتها،
فإن لم تكن لها رائحة فهي وردة اصطناعية، وليست وردة طبيعية، تحكم على أنها ميتة
من مادة بلاستيكية؛ لأن من أخص خصائص الوردة الطبيعية فوحان رائحتها، فالإيمان
عمل، قال عليه الصلاة والسلام: «وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».
وقد
بينت لكم من قبل أن من الزم لوازم الإيمانِ، الإيمانُ باليوم الآخر؛ لأن الإيمان
بالله والإيمان باليوم الآخر متكاملان، أنت إذا آمنت أن لهذا الكون إلهًا خالقًا
خلقه، وربًا يمده، وإلهًا يسيره، ولم تؤمن أن هذا الإله سوف يحاسبك عن كل كلمة،
وعن كل حركة، وعن كل سكنة فلا تستقيم على أمره.
ليس
ثمة قانون إلا وله كما يسميه الحقوقيون المؤيد القانوني، أصدر نظام سير بتفاصيل في
خمسين صفحة، لكن ليس فيه عقوبة واحدة، لا قيمة له أبدًا، أما الإنسان إذا لم يكن
معه شهادة تسحب منه أوراق السيارة أسبوعين، إذا قاد من دون إجازة أودع في سجن، كل
مخالفة لها ردع؛ لذلك الإيمان بالله مؤيده القانوني اليوم الآخر، هذا الإله خلق،
وكلف، ويعلم، وسيحاسب، «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».
لو
قال: من كان يؤمن بالله لما تناسبت المقدمة مع النتيجة، آمنت بالله موجودًا، خالق
الكون خالق عظيم، أما إذا ما آمنت أنه سيحاسب عن كل حركة وسكنة فتستقيم على أمره،
لذلك جاء أمر النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».
صدقوني
أيها الإخوة أن الناس أحد رجلين؛ رجل مؤمن بالجزاء، ورجل مؤمن بالعبثية، المؤمن
بالعبثية لا يستقيم، وعدم استقامته تنسجم مع إيمانه، إذا كانت الأمور فوضى، وإذا
لم يكن لموظفٍ في دائرة دوام ولا من يحاسبه، ولا مكافأة للمحسن، ولا عقاب للمسيء،
ولا توقيع، ولا مسؤولية، ولا شيء، فلا أحد يعمل إطلاقًا، إذا لم يكن هناك إيمان
بالجزاء فما لا استقامة، ولا التزام، أما إذا أيقن الإنسان بالعبثية فلا يستقيم،
ولن تستقيم على أمر الله إلا إذا آمنت بالجزاء يوم الدين، فإذا أيقن الإنسان
بالحساب فلا بد أن يستقيم.
أيها
الإخوة الأكارم: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا» عندك حالتان؛ إما أن تنطق بالحق،
وإما أن تسكت، وفي الحقيقة ما مِن نشاط إنساني سلس، فيمكن أن تنجر ببساطة إلى كلام
فارغ، إلى كلام ليس له معنى، إلى كلام يؤذي، إلى غيبة، لذلك معظم المسلمين، أقول:
معظم المسلمين لا يشربون الخمر، ولا يزنون، ولا يقتلون، لكن ما الذي يحجبهم عن
ربهم؟ لسانهم، هذا اللسان فيه انزلاق إلى الغيبة، إلى النميمة، إلى البهتان، إلى
الزور، إلى السخرية، إلى الكبر، لذلك أحد أسباب سعادة الإنسان لسانُه إذا ضبطه،
وهو من أسباب شقائه إذا تفلت، لهذا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ ﷺ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ،
وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ
الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» أحمد.
رجل
سأل النبي عليه الصلاة والسلام، اسمه أسود بن أصرم المحاربي قال: يا رسول الله
أوصني، إنسان يسأل سيد الخلق، قال: أوصني، فقال عليه الصلاة والسلام: «هل تملك لسانك؟»
قال: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ ويحي إن لم أملك لساني، فماذا أملك؟ وبصراحة
المؤمن لا يكون بطلًا إلا إذا ملك لسانه؛ لأنه أحيانا تنجر في حديث ممتع، تعرف قصة
عن فلان لو قلتها كأنك تلقي قنبلة، ما هذا الحديث، هل هذا معقول؟ معي أدلة، هذه
متعة الغيبة والنميمة، فيها متعة وقتية، لكن فيها انقباض وحجاب، لكن ضبط اللسان
تكليف، الحديث في الغيبة والنميمة يتوافق مع طبع الإنسان؛ لأن الإنسان فضولي يحب
أن يعرف كل شيء، ما سببه، ما علته، أما ضبط اللسان فهو تكليف، فالإنسان من دون جهد
ينزلق في معاصي اللسان، أما ضبط اللسان فيحتاج إلى جهد، ويحتاج إلى يقظة، وإلى
دقة.
فلذلك
قال: يا رسول الله أوصني، فقال عليه الصلاة والسلام: «هل
تملك لسانك؟» قال: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ فقال: «هل تملك يدك؟» فقلت: فما أملك إن لم أملك؟ يدي، فقال
عليه الصلاة والسلام: «فلا تقل بلسانك إلا معروفًا،
ولا تبسط يدك إلا إلى خير»، هذه وصية رسول الله.
الحمد لله رب العالمين
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ
جَنّات النَعيمْ
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
ليست هناك تعليقات: